رواية رومانسية.." ساعات الانتظار " بقلم محمد إبراهيم محروس
"ساعات الانتظار"
1لم تكن ليلى تدرك أن يومها مختلف.. قامت من سريرها متثاقلة كالعادة..لقد كلمها رأفت أمس قال لها إنه يرغب في محادثتها في أمر خارج حدود العمل ، لم تدر تحديدا لماذا يرغب فى محادثتها ؛فهما لم تجمعهما أفكار مشتركة ،ودوما هناك مشاكل بينهم حتى في سير العمل، برغم تأكدها أنها تؤدي عملها على أكمل وجه وأنه يعلم بهذا ..يتبادلان القليل من الحديث خارج إطار العمل الرسمي نادرا؛ لذا بدا لها الأمر محيرًا أكثر من اللازم..لم تعط لعقلها فرصة للتفكير وهي تتجه للحمام ..بل لمحت نور شقتهم مطفأة ؛ فأدركت أنها صحت مبكرا جدا، بل مبكرا عن المعتاد..أبوها ما زال غارقا فى نومه ..ليكن .. إنها الأفكار التي تشغلها منذ أمس..حديث نفسها يؤرقها .. لماذا يريد هذا الشخص محادثتها وعلى انفراد..منذ ثلاث سنوات وهما معا فى العمل كناقر ونقير كما يقولون.ربما هذا ما يجعل عقلها يشك أن هناك مؤامرة عليها فى العمل وربما هذا ما يجعلها متنمرة هكذا..انتهت من ارتداء ملابسها ،نظرت إلى ساعة الحائط ..ما زال الوقت مبكرا ..ذهبت إلى المطبخ لتعد لنفسها كوبا من الشاي ربما استطاعت أن تفكر جيدا.عادت لغرفتها وهي ترتشف دفقات من الشاي الساخن .. دوما تحب أن تشربه ساخنا، وساخنا جدا.أخرجت أوراق العمل ونظرت إليها عدة مرات إنها متأكدة من حساباتها وكل تقاريرها سليمة .ليكن .لتنتظر الصباح فمهما زاد ظلام الليل لابد له من نهار..راجعت الأوراق عدة مرات ،وعندما تأكدت أنها لم تخطئ أرجعتها مرة أخرى إلى حقيبتها ..أخيرا بدأ ضوء النهار يزحف من خلال شيش النافذة..خرجت للشرفة وتطلعت للسماء فوقها، واضح أنها ستمطر اليومكم تحب الشتاء فهو يحسسها بالدفء والأمان..ولكن شتاء اليوم مختلف فهناك مقابلة مع رأفت وكم تكره هي لحظات تجمعهما سويا وتحاول دائما الهروب منها.هناك نظرة فى عينيه دوما لا تريحها ..نظرة تشعرها أن هناك شيئا خطأ فيها .. ولكنها لا تدرك ما هو هذا الشيء حقًا..صوت قطرات من المطر على سور الشرفة جعلها تحدق للسماء التي أخذت غلائل السحاب تتجمع فيها على فترات، وتلقت بعض القطرات على وجهها..دلفت للداخل وأغلقت باب الشرفة عليها.سمعت صوت أبيها فى الصالة وهو يتحرك .. أكملت زينتها ..وولجت للصالة ..رآها أبوها فاتسعت ابتسامته وهو يقول فى حنان عارم :- لقد استيقظت .. سوف أحضر لك الإفطار..ابتسمت وهي تجري لتحتضنه وتضع قبلة على جبينه وهي تقول:- لا تشغل بالك، سوف أحضر أنا الإفطار لنا.ابتسم فى غرابة وهو يقول :- ليس من عادتك ؟!قالت وهي تبتسم في حب:- اعتبره يوما مختلفا .. الإفطار علي اليوم وأنت عليك الغداء..قال وهو يبتسم بدوره :- إذن هو هروب من الإفطار ومقلب لكي أحضر أنا الغداء ليكن.. موافق تألق وجهها فظهرت عيناها الرماديتان متسعتين في سعادة، الغريب أنها فعلا تشعر بسعادة لا تدري كنهها.. ربما منظر السماء الماطرة أسعدها.ولكن ربما هي الحياة هكذا عندما نشعر بلحظات من القلق تعصف بنا نتجه للسعادة.ذهبت للمطبخ بينما اتجه أبوها للحمام ليتوضأ ، ويصلي الصبح ..عادت بعد قليل ووضعت الطعام على المائدة، وانتظرت أباها حتى أكمل صلاته؛ فقامت لتأخذ من يده سجادة الصلاة وتطبقها.- عنك يا ابنتي.- بل عنك أنت يا حبيبي، صلاة مقبولة إن شاء اللهطبع قبلة على خدها، فازداد تورد وجهها.. ثم قال فى هدوء :- ماذا ستؤكليننا اليوم ؟.- خيرك يا أبي ..غامت عينا والدها للحظات وهو يهز رأسه :- بل هو خيرك أنت يا ابنتي .لاحظت الدموع التي تحاول أن تفر من عين أبيها ، فقالت فى مرح مصطنع :-هيا لنأكل، حتى لا تزوغ أنت من عمل الغداء.ابتسم الأب لدعاباتها وهو يتذكر كيف أصابه ذلك المرض اللعين؛ ليجعله قعيد المنزل، ويجعلها تخرج للعمل قبل أن تنهي دراستها بعام واحد، ولكنها استطاعت أن تحصل على شهادتها وهي تعمل وبأعلى التقديرات..انهيا طعامهما ، وصبت أكواب الشاي ،وراحت تسقي أباها بنفسها وهي تجلس بجواره على أريكة الصالة ..قال أبوها فى سعادة :- لماذا كل هذا التدليل اليوم ..قالت فى حنان وهي تقبل رأسه :- أنت أبي وكل حنان الدنيا لك .قام بغتة وهو يقول فى صرامة مصطنعة :- هيا ، حتى لا تتأخري على عملك ..هيا .سحبت حقيبتها من على المائدة وتطلعت بداخلها لثوان ..وهي تتجه للباب قائلة :- لو شعرت بأي تعب أتصل بي مفهوم ..قال أبوها فى بساطة :- مفهوم يا سيدة المنزل .أغلقت الباب خلفها وهي تلقي لأبيها قبلة فى الهواء ..ولكن بداخلها راحت تسترجع كل شيء ومنذ البداية ..
********
كانت تتجه لسيارتها وهى تحاول تجنب حبات المطر التي كانت فى ازدياد تام .. وشعرت للحظات أن يومها فعلا مختلف.. كانت السماء ما تزال تمطر..والسحب الرمادية تتجمع لتعلن عن يوم ماطر..وبغتة جاءها صوت من خلفها صوت تمنت أن تنساه للأبد..- ممكن أتكلم معك بعض دقائق..حدقت فيه في دهشة ، وارتعشت أهدابها وهي تقول في خوف :- أنت .. متى خرجت من السجن ؟!أجابها وعيناه تتفحصان وجهها في هدوء :- منذ شهر تقريبا ..ولكنني لم أرد إزعاجك من قبل ..ارتعش جسدها لصوته الدافئ ، وعيناه تغازلان عينيها في وله ..تراجعت بظهرها للخلف عدة خطوات حتى اصطدم ظهرها باب سيارتها ..تشبثت يدها في ضعف بباب السيارة ،قبل أن تفتحه في سرعة وهي ترمي نفسها بداخلها ، وهي تقول :- لدي عمل الآن .. والأفضل ألا أراك مرة ثانية ..أدارت محرك سيارتها ، وهو يقترب من الباب قائلا في هدوء :- أرجوك أن تعطيني الفرصة لأشرح لك كل شيء ..أدارت وجهها في اتجاهها وهي تقول :- أظن أنني قلت إنني لا أريد أن أراك مرة ثانية ..وأغلقت باب سيارتها بعنف ، وأطلقت لها العنان وهي تلمح صورته المنعكسة في مرآة السيارة الجانبية؛ يقف متأملا انصرافها في هدوء ..كم كانت تكره هذا الهدوء منه ، وكم أزعجها في الماضي بتصرفاته المجنونة ، والتي دوما يكسبها مظهر الهدوء ..دارت بالسيارة دورة كاملة وهي تدخل في سرعة شارعا جانبيا، وكأنها تريد أن تطرد من مخيلتها منظره الذي طالعها به اليوم ..خمس سنوات مرت منذ اختفى من حياتها ، وزج به إلى السجن ، ولكنها تعلم جيدا أنه ليس بالشخص الهين .. كل شيء ينعكس على حياتها دوما بالسلب أو الإيجاب ، تتذكر منظره في المحكمة وهي تشهد ضده ؛برغم كل الحب الذي كان يجمعهما سويا ، ولكنها لم تستطع أن تخون ضميرها ،وهي تشهد ضده في المحاكمة وتقدر نسبة المبالغ المنسحبة على المكشوف من حساب الشركة ، والتي اختلسها هو ، كانت شهادتها كافية مع الأوراق والمستندات لتزج به في السجن خمس سنوات كاملة ..وكم عذبها هذا إلى ما لا نهاية فهي لم تتصور قط أن تضع بيدها حبيبها ، الذي رسمت معه كل خيالات الزواج ، والعش السعيد ..واختارا سويا أسماء أطفالهما في المستقبل ..لم تكن تتصور أن تكون هي الأداة التي تضعه لخمس سنوات خلف القضبان ، حتى تلك النظرة الوديعة الهادئة التي رمقها بها في المحكمة ،والتي ظلت تطاردها لسنوات محطمة أعصابها ، انتهت منذ مدة ، وما كانت تتصور قط ، أن يعود لها في يوم من الأيام ..مزقتها مشاعر شتى ،وهي تقف في إشارة المرور ، منتظرة الأمر بالعبور ،بينما المطر يضرب زجاج سيارتها ، وشردت فيما حدث ،وكأنها تعبر حول حياتها من جديد ، حول كل الذكريات بمرها وحلوها ، حول صداقتها بأحمد في الجامعة ، حيث بدأ الحب وقتها كطفل صغير يحبو ، ويكتسب كل يوم خطوة جديدة في الحياة ، حتى عندما ماتت أمها ، وأصاب أباها ذاك المرض اللعين ، كان أحمد بجوارها ، يذهب حيث تذهب ويعود حيث تعود ، هو من استطاع أن يعينها في تلك الشركة التي تعمل بها الآن ، وهو أيضا من ساعدها في أول أيام عملها وكسر رهبتها من المكان ، حتى أصبحت من أمهر موظفي الشركة ، هو من ساعدها في تعديل مركزها الوظيفي بعد الشهادة الجامعية ، وهو .. وهو ..كيف استطاعت أن تقتلع كل هذا وهي تشهد ضده في المحكمة .. كيف خنقت سنوات الحب ، وسنوات الصداقة .. كيف أعطت لنفسها الحق أن تكون القاضي والجلاد ، وأن تقتل كل شيء جميل بينهما بهذه الصورة ..الإشارة خضراء .. ضغطت على دواسة الوقود بعنف ، وهي تشعر أن حياتها كلها تتحرر من بين يديها .. تتحرر لتذهب بعيدا عنها .. تسمع خفقات قلبها ، وترتجف في داخلها مشاعر شتى .وقفت بسيارتها أخيرا أمام باب الشركة ، كانت ما تزال غارقة في حيرة داخلية رهيبة ، لمحت الموظفين وهم يدلفون للشركة ويلقون عليها التحية ، لم تعرف إذا كانت ترد التحية أو تغلق فمها متمتمة بكلمات غير مفهومة ، أخذت طريقها إلى المصعد ، وانتظرت وهلة قبل أن تفتح بابه وتدلف ..مدت يدها لتضغط زر الدور الخامس حيث مكتبها عندما امتدت يد وفتحت الباب ، كانت يد رأفت الذي وقف أمامها مبتسما وهو يقول :- صباح الخير .تمتمت بهدوء قدر الإمكان :- صباح الخير ..ضغط رأفت على زر الدور الرابع وهو يقول :- اجتماع اليوم مهم ، هل وصل تقرير الشركة الهندسية ..قالت وهي تحاول أن تبدو أكثر هدوءا :- بالتأكيد سيكون جاهزا في موعده .تأمل رأفت ملامحها ثوان ، وهو يقول :- ملامحك تبدو مرهقة ..هل هناك شيء ؟قالت بثقة اعتادتها :- لا أظن ؟.. ربما المشوار مجهد بعض الشيء .هز رأفت رأسه والمصعد يقف في الدور الرابع قائلا:- الاجتماع في الساعة الثانية عشرة ..أرجو أن يكون كل شيء جاهزا .هزت كتفيها وهو يغادر المصعد ، تطلعت لملامحه الهادئة ، ولقامته الممشوقة ، ولخطواته المتزنة ، وارتجف جسدها دون سبب ، وعندما تأكدت أنه بعد لمسافة أطلقت زفرة ملتهبة .. وهي تقفل باب المصعد وتضغط على الدور الخامس ..لم تمر وهلة حتى توقف المصعد؛ فغادرته وهي تنظر لنفسها في مرآة حقيبتها ، وبالفعل لاحظت أن وجهها شاحبا بعض الشيء ، وأطلقت تنهيدة أخرى وهي تغادر المصعد ، وتتذكر وجه أحمد واقفا بجوار سيارتها بابتسامته الهادئة ،والمطر يغرق ملابسه ولسان حالها يقول : ما الذي يحدث لي بالضبط ؟!فتحت باب السكرتيرة المؤدي إلى مكتبها ، رأتها دينا فوقفت محيية لها ، قبل أن تقول هي :- دينا .. تعالي ليّ بعد عشر دقائق ..دلفت إلى المكتب وأغلقته من الداخل ،وهي تحاول أن تبدو متماسكة أمام نفسها ..جلست على مقعدها وهي تطلق زفرات لا تدري هل هي ارتياح أم غضب أم حيرة ..نظرات رأفت دوما تقلقها تشعرها بأنه يخترق أنوثتها ، يبحث داخلها ، وكأنها تصبح كتابا مفتوحا أمامه يقلب صفحاته كيفما شاء ، كم يزعجها تلك الخواطر ، وكم يؤنبها ضميرها أحيانا لاستسلامها لتلك النظرات التي تلهب مشاعرها في كثير من الأحايين ..هدأت بعض الشيء.. أو هكذا أقنعت نفسها أن كل شيء على ما يرام .سمعت بعد قليل دقات على باب غرفتها ، بالتأكيد دينا سكرتيرتها وصديقتها الصدوق ، تنبهت إلى أنها أغلقت الباب بالمفتاح .. وقفت واتجهت للباب وفتحته ، وهي تعدل من نفسها ، فتحت الباب رأت نظرة الدهشة في عين دينا التي قالت بتلقائية :- لماذا تغلقين الباب على نفسك ؟!أجابتها ليلى وهي تعود لمكتبها :- لاشيء ..اقتربت دينا من وجه ليلى وهي تقول :- كلا بالطبع هناك أشياء وليس شيئا واحدا .. ماذا هناك ؟!قالت ليلى في قسوة مصطنعة :-دينا .. لا تنسي أنك سكرتيرتي ..قالت دينا وهي تضغط حروف الكلمات :- عندما أراك في حالة غير حالاتك ، أنسى بالطبع أنني سكرتيرتك ..اعتبري استقالتي على مكتبك الآن ..قالت ليلى وهي تقف :- كفى هزلا ..قالت دينا في تحد :-إذا لم تقولي ما بك .. اقبلي استقالتي إذن ..بغتة انهمرت دموع من عيني ليلى ، بينما وقفت دينا تحدق فيها قبل أن تذهب إلى الباب وتغلقه ، وتعود لتأخذ ليلى في أحضانها وهي تقول :- الأمر جد خطير .. ما بك يا ليلى .قالت ليلى من وسط دموعها التي حاولت حبسها طويلا :- لقد خرج أحمد .. ورأيته اليوم ..قالت دينا في عصبية :- اللعنة ! ماذا يريد الآن ؟!قالت ليلى وهي تنشج :- لم أعطه الفرصة ليقول ماذا يريد .. انصرفت مسرعة قبل أن أضعف أمامه ..قالت دينا :- أفضل ما فعلتِ.. هي جففي دموعك .. سأجهز لك كوبا من الشاي ينسيك أحمد وأهله .وانطلقت ضحكة من بين شفتي دينا بادلتها ليلى ضحكة خافتة وهي تمسح دموعها ، وتنظر لوجهها في المرآة ، وتحاول أن تنسى ما حدث ..ولكن دوامه رهيبة كانت دوما تقتلع عواطفها تجذبها ، وتعود لترمي بها وسط جو مشحون من القلق والتوتر ..*******
دخلت ليلى إلى قاعة الاجتماع بخطى هادئة ، لقد استطاعت دينا أن تحتويها كالعادة ، وتشغلها بأمور كثيرة في العمل؛ حتى خرجت من حالتها النفسية القلقة، وعادت لطبيعتها الهادئة ..كم تشعر بالامتنان لوجود دينا في حياتها ، فهي صديقة مخلصة بكل ما تحمل الكلمة من معان، بكل صورتها وتخيلاتها ..بدأت وفود كبار الموظفين للشركة يدلفون إلى قاعة الاجتماعات، واستقروا في مقاعدهم ، وبدا هسيس من حمى العمل بينهم، وكلمات مقتضبة تعلو أحيانا وتخفت أحيانا ..ولم تمر عدة دقائق ، حتى دلف رأفت إلى القاعة بقامته الممشوقة ، وهو يلقي تحيته على الجميع ، ويأخذ مكانه في صدر القاعة ، كان رأفت هو المدير التنفيذي لمشاريع الشركة ، وهو المتحكم الرئيسي في كل الأمور بعد صاحبها الأصلي الذي نادرا ما يأتي الشركة ويترك كل العمل على كاهل رأفت الذي لم يخل يوما بمهام عمله رغم مشقته ، وبرغم حالة التنافر أحيانا بين ليلى ورأفت التي لا تدري ما سببها الحقيقي ، ولكنها تشعر دوما بميل خاص إلى نجاحه وتفوقه وربما أخذته مثلا أعلى في التفوق والامتياز ..هدأت القاعة ورأفت يقول في ثقة :- كما تعلمون جميعا أن مشروع اليوم هو أكبر مشروع في تاريخ الشركة ، وأن ميزانيته تفوق أي ميزانية لأي مشروع آخر في الشرق الأوسط ، لذا يجب أن تتم كل خطوة فيه بمنتهى الجدية والحسم ، لا نريد تأخيرا في ميعاد استلام الوحدات السكنية ، ولا نريد أي تأخير في مستحقات الممولين والعملاء ، لقد انتهينا منذ أسبوع من وضع لبنة الأساس للمشروع كله ، وبدأت رحى العمل تدور في ثقة متبادلة مكتسبة بيننا وبين العملاء من سنوات بعيدة ، ولكن لضخامة المشروع وحجمه يجب أن تكون كل خطوة محسوبة بمنتهى الدقة .. ويجب علينا الاستعداد لأي تغيرات في مسارات العمل وأي تقلبات في الأسعار ....صاحب فكرة المشروع سيكون بيننا بعد أيام وأرجو أن يتم الترحيب به في العمل .. وجوده وفكرته جلبت للشركة مبالغ لمن نكن نحققها في عشر سنوات ..سرحت ليلى قليلا - وصوت رأفت القوى الحاسم يكتنف الغرفة - لم تسمع صوت رأفت الحازم وهو يناديها :- آنسة ليلى .. آنسة ليلى..وعندما لم يتلق ردا قال في حسم :-آنسة ليلى .. لا أظن الوقت وقت شرود ..تمتمت ليلى في خفوت :- آسفة ..قال في قوة مكتسبة بحكم عمله :- تفضلي بتقديم تقرير المحاسبة المالي للمشروع في الخطوة السابقة ، وقيمة الحسابات القادمة ..هزت ليلى رأسه وهي تفرد أوراقا أمامها وراحت تدلي بصوت هادئ بما يوجد في الأوراق بمنتهى الدقة لمدة نصف ساعة كاملة .. ثم صمتت بعد أن قالت :- وأتمنى أن تكون كل النقط في التقارير وافية لصورة المشروع وحجمه ..ساد بعد جملتها هدوء في القاعة ، ران لفترة قبل أن يقطعه صوت تصفيق رأفت لها .. وتعالى التصفيق بعدها من الجميع مهنيئن لها على الدراسة ..وقال رأفت في لهجته العملية المعتادة :- الآنسة ليلى .. هي أمهر مدير مالي تعاملت معه وهذا ليس مدحا بالطبع ، فأنتم تعلمون أنني لا أهذر في العمل..وتعالت همهمات مردة :- بالطبع .. بالطبع ..وقال رأفت بعد ثوان :- يعيبها أحيانا أنها تشرد قليلا ..هزت ليلى رأسها وهي تقول :- شكرا لك .. إنني أبذل قصارى جهدي ..قال رأفت في اقتضاب :- نعلم هذا ؟!مرت ساعة أخرى قبل أن ينتهي الاجتماع ، وبدأ الموظفون يغادرون القاعة.. بينما قال رأفت بهدوئه المعتاد :- آنسة ليلى أرجو أن تنتظريني قليلا فهناك بعض نقاط ، سنعمل عليها معا ..هزت ليلى رأسها ، وهي تعود لتجلس في مقعدها بينما غادر الجميع ، وغادر رأفت بالمثل القاعة لدقائق ، ظلت هي فيها تساءل نفسها أي نقاط أخرى يريد رأفت أن يوضحها لها ، ولكنها أمهلت نفسها بالصبر ، فدقائق أخرى وتعرف كل شيء ، فلا داعي لأن تستبق الأحداث ..لم تمر خمس دقائق حتى عاد رأفت إلى القاعة ، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة قائلا :- أرجو ألا أكون قد تأخرت عليك بعض الشيء ..تمتمت ليلى :- ليس هناك ثمة تأخير ..قال رأفت في ثقة معتادة :- اتبعيني من فضلك ..وأخذ رأفت يشق طريقه إلى مكتبه.. تبعته ليلى بعدة خطوات قليلة .. دخلت إلى مكتبه ، بينما جلس هو على مقعده قائلا في هدوء :- شاي أم قهوة ..قالت ليلى:- قهوة ..ضغط زرا بجواره وهو يملي على السكرتيرة طلباتهما .. ثم داعب رقبته بيده وفك رباط عنقه بعض الشيء وهو يقول :- أحيانا تخنقنا الرسميات ..هزت ليلى رأسها ولم تنبس بحرف بينما أردف هو :- الحقيقة أنني أريدك في أمر خارج العمل كما حدثتك أمس ..استسلمت ليلى لنظراته المدققة في ملامحها وهو يردف :- بالطبع ترغبين بشدة في معرفة هذا الأمر الذي قد يجمعنا سويا خارج حدود العمل ..قالت ليلى في تماسك :- أظن هذا ؟!قال هو في هدوء :- لنتفق أولا أنك موافقة .قاطعته ليلى :- على ماذا؟!راحت عيناه تبحران في وجهها الذي تحاول هي أن تبدى تماسكه وألا تظهر عليه أي صورة من صور القلق ثم قال :- نتفق على ميعاد خارج العمل ..أهناك ما يمنع ..أرادات أن تقول له الكثير يمنع ، ولكنها صمتت وهو يقول :- اسمحي لي أن أدعوك على العشاء اليوم ..قالت ليلى في اقتضاب :- وإذا رفضت ؟أطلق رأفت ضحكة هادئة ثم قال :- لك مطلق الحرية أن ترفضي بالطبع .. ولكنني أعرف شخصيتك ، ستظل تساءلين نفسك كثيرا ما هذا الشيء الذي كان يريد أن يخبرني به ؟قالت ليلى بغيظ مكتوم وقد أثارها ثقته بنفسه :- كلا .. لن أسال نفسي شيئا .. إنني أرفض دعوتك .. هل من شيء آخر بخصوص العمل ..تطلع رأفت في عينيها ، قبل أن يقول :- لك مطلق الحرية .. تفضلي ..قامت ليلى من مقعدها ، وسارت باتجاه الباب ، قبل أن تسمع صوته وهو يقول في غموض غريب :- أهنئك مرة أخرى على دراسة الجدوى اليوم ..وأرجو أن تكوني دوما عند حسن ظني .فتحت باب المكتب وهي تقول في همس :- شكرا لك ..راحت ليلى تقطع الردهة في اتجاه المصعد وعقلها يلتهب بالأفكار ، لماذا رفضت دعوته لماذا ؟!..ما الذي كان يريده رأفت بالضبط ..اللعنة أنها تفكر حقا كما كان يقول هو!!لاحت ابتسامة على شفتيها فهزّت رأسها، وهي تستقل المصعد ؛لتهبط إلى الدور الرابع حيث مكتبها ..نظرت في ساعة يديها .. ولاحظت أنها برغم ما حدث لم تشعر بمرور الوقت معه ، وكأن هناك مغناطيسا قويا يجذبها في اتجاهه .. أي شخص هذا ؟ .. فمنذ ثلاث سنوات نقل من فرع الشركة في لندن حيث الإدارة المركزية ليعود ليستقر هنا .. ومنذ أول يوم وهي تلاحظ نظراته الغريبة لها ، لم تستطع أن تقنع نفسها أنها نظرات إعجاب ، ولكنها نظرات تحمل أحيانا شيئا من القسوة ، وربما النفور ، وفي أحيان أخرى تجد نظراته هادئة قوية ، لا يشوبها أي عاطفة ، وأحيانا تشك أنها لمحت نظرة عشق في عينيه ، ولكنها دوما تكذب عينيها ، وتقول لنفسها إنها واهمة .. إنه آلة في هيأة إنسان .. آلة لا تعرف سوى العمل فقط .. ولا شيء آخر .. وجدت نفسها على باب المكتب ، ودينا تقف في استقبالها ، قالت دينا :- كيف انتهى الأمر ؟قالت ليلى في ثقة :- الاجتماع كان ممتازا .. والجميع أشادوا بالتقارير ..قالت دينا في غموض :- هذا علمته منذ أكثر من نصف الساعة .. ما أسأل عنها هو الاجتماع المغلق بينك وبين السيد رأفت في مكتبه ..قالت ليلى في حدة وغيظ :- دينا ..أرجو ألا تتركي الأوهام لخيالك من فضلك ..أطلقت دينا ضحكة عالية بعض الشيء :- الأوهام ,, لك هذا يا سيدتي العزيزة .. لنعتبرها أوهاما .. هاه .. الغداء على من اليوم .قالت ليلى في غيظ مكتوم :- الغداء عليك اليوم نظير أوهامك ..انطلقت ضحكة صافية من بين شفتي دينا ، وهي تتأبط ذراع ليلى وهي تقول :- لك هذا يا سيدتي الجميلة ..وسارت الفتاتان إلى المصعد وقد تراقصت ضحكة في العيون ، ضحكة تختلف مغزاها من عين لأخرى ..بينما كان داخل ليلى ما زال قلقا متوترا وهي تهمس لنفسها :- ما الذي يخبئه الغد لها ، وأي جديد سيطبق عليها ؟!!..والسؤال الذي سيطر عليها كليا حقا :ما الذي كان يريده رأفت بالضبط؟ ..ما الذي كان يريده؟!!! .