استقبلته امه فور عودته الى المنزل وملامح القلق تملأ وجهها ازدادت ملامحها سوءاً بعد ان شمت رائحة السجائر التي تفوح منه قالت بتعجب شديد :
_احدث شيء سيء ؟
_ حدث ما لم ارجوه، امراً غير متوقع يا امي
_ ما هو !
_ مدير الشركة الذي رجوتيني من اجل الاعتذار له سرق مقالاتي وتاجر بها وهاهو الان يربح اموالاً من صحف ومجلات تظهر على التلفاز اللعين
_ يا اللهي...افعل هذا حقاً ؟
_ فعلها وفعل الكثير
_أيوجد هكذا اشخاص في زمننا هذا ؟ انا حقاً لا اصدق
_ امي ارجوكِ لم تتوقعين عالماً لطيفاً فوق الواقع ؟ نحن نعيش في عالمٍ موحل من الطبيعي ان نجد خنازير، اعجب على نفسي كيف غفلت على امرٍ كهذا ؟
_ اخبرني اذاً مالذي ستفعله
_ بالطبع لن اوكل محامٍ ولا اقاضيه الان
_ لماذا ؟
_ إن فشلت القضية من سيعيد اموالي ؟ ساخسر اضعافها
_ اذاً ماذا يجدر بك ان تفعله ؟
_ اكتب
_ ماذا !!
_ اكتب رواية
_حقاً ! اانت جاد ؟
_اعلم ان الامر يبدو غريباً الا انه الحل الانسب برايي
_لكن مالذي دفعك للتفكير بهذا الحل
_كيف يثبت الانسان انه على حق برأيكِ ؟
_ بالدليل ؟
_ نعم وهذا ماعنيته، اردت دليل حتمي وقاطع يثبت انني كاتباً جيداً وتلك المقالات كتبت باسلوبي .
هدأت لوهلة ومن ثم قالت بشيء من القلق
_لكنك هجرت الكتابة ! امن الصواب العودة الا تجد الامر صعباً ؟
_هو صعب ، بالتأكيد صعب لكن مهما حدث الحياة تتطلب ان نحيى بها بهذه الطريقة
_ بالصعوبة ؟
_ اجل ،ادركت مؤخراً ان حرمان نفسي من الكتابة لن يؤذي احد سواي ولن اتمكن من ارجاع ابي بعد ذلك الحرمان كما لو كان مكافئة .
كنت لا اتصرف بعقلانية لانكِ تعلمين ان العواطف هي المتحكم الوحيد في مثل تلك الاوقات لذلك شعرت الان ان الامر مختلف رغم انني امتلك رغبة عارمة في الكتابة ورغم انني كنت اكبح رغباتي من اجل ان انصف تلك المشاعر وجدت نفسي افقد زاوية مهمة جداً في حياتي واصبحت افقد شيئين مهمين، ابي وتلك الزاوية وبمرور الوقت تثاقل حجم الفقد في داخلي لذلك قررت الا اجعله يتراكم قررت ان اكن شجاعاً ولا اربط ابي بحبي للكتابة كي لا يتعاظم الحزن واجلس خاوٍ بائس ابكي ولا انفع بشيء.
_من الجيد ان تقرر بستمرارية حياتك وعودتك لممارسة ماتحب ، اتمنى حقاً ان تعيش سعيداً ومرتاحاً
سحب فالديمار كرسيه وقال قبل ان يجلس :
_اتمنى ذلك ايضاً .
وجد كوب قهوة على طاولة الطعام وبالقرب منه كتابٌ قديم لامه لطالما اعادت قراءته بلا كلل ولاملل ، قال وهو يجذب الكوب نحوه وياخذ رشفة منه
_ مالمميز في هذه الرواية
جلست امه وتحدثت بابتسامة وكانها ستفصح عن مشاعرها له في هذا اللحظة
_ ذهب مع الريح ، انها رواية مميزة بحد ذاتها
_ اوافقكِ الرأي لكونها مميزة وجميلة ولكن مالمميز بها لجعلكِ تعاودين قرائتها منذ الازل
_ اشتاق لشخوصها بين الفينة والاخرى
_ لتلك الدرجة !
_اجل ، انا ايضاً لا اعرف كيف تمكن الكاتب من جعلنا نحب مايحبه هو وبنفس القدر
_ اعتقدُ لانه كان صادقاً لامس مشاعرك
_ لربما
نهضت امه لتصنع قهوةً لها ، واخذ فالديمار الكتاب وبدأ يقرأ بالصفحة المفتوحة التي توقفت امه عندها ، قال بعد ان انهاها للمنتصف :
_ يبدو انني عكسكِ ، اسأم من تكرار الامور ذاتها
_ انا لا اكرر اي شيء، اخبرتك هذه الرواية كقاعدة شاذة ، ربما انت ايضاً في احد الايام ستشذ قاعدتك من اجل شيء معين
_ لست ادري ربما.
استطرقت سؤالها في موضوعٍ اخر قائلة:
_ اخبرني افكرت بماذا ستكتب ؟
_ انا لا امتلك فكرة واضحة الان ولكن بشكلٍ عام اعتقد انني افكر بكتابة رواية عن شخص اصيب بالاعاقة
_ حقاً ! وما سبب هذه الرغبة ؟
_ منذ مدة طلب مني بحثاً عميق عن دور الرعاية وفي اثناء ذلك البحث شعرت برغبة في كتابة عن شخصية كهذه
_ جميل
_ اجل احببت ان اذكر جانبين في حياة تلك الشخصية قبل الاعاقة والحياة المنعمة وبعدها وكيف تتغير حياته ، ابسط الاشياء يتغير، تصرف الاخرين معه نظرتهم له حديثهم، هجر حبيبته له وطرده من وضيفته لكونه معاق ومن ثم مصاعب حياته في تقبل نفسه وعيشه الذي يعتمد على نصفه العلوي فقط ، فالطالما كان يحب المشي ويمارس الرياضة باستمرار.
ساذكر حياته الطبيعية ومن ثم بحدث اقل من لحظة انقلبت تلك الحياة والى الابد .
_ ستكون ماساوية جداً
_ بل واقعية
_ ابرأيك ستحقق نجاحاً ؟
_ نعم ، رغم انني لايمكنني الجزم ولكن نعم استطيع رؤيتها وهي تذاع في وسائل الاعلام
_ ارجو لك ذلك ، ابذل قصار جهدك لاتستهين بالكتابة ابداً
_ سافعل
_ كيف ستكون نهاية ذلك الشخص في الرواية ؟
_ لم افكر بتفاصيلها كما اخبرتكِ ولكنه بعد انهياره التام سيستجمع نفسه سيصنع لنفسه وضيفة ملائمة وسيجد ترحيباً ، سيصبح شجاعاً ويمتلك اموالان طائلة وستعود حبيبته له
_ لا هل حقاً ستعود !
_ اجل ولن يعود اليها رغم انه لايزال يحبها لكنه خذل منها ولايمكنه تجاهل مشاعره المنكسرة في تلك الايام العصيبة
_ بالطبع سيجد حبيبة افضل منها فما الفائدة من حبيبة لاتقف معك في وقت الحاجة
_ للاسف هذا لن يحدث لانه احبها بصدق لم يجد غيرها او لم يرى غيرها
_ اذاً ماذا سيحدث له !!
_ سيمضي وحيداً مع ذكرياته السعيدة القليلة معها
_ ياللغرابة تخبرني ان الحياة لاتقف بعد فقدان من نحب وتوقف حياة شخصيتك !
_ لان شخصية رواياتي ليست شخصيتي انا ، كل واحدٍ منا له مبادئ
_ كيف يعني الاتكتب عن افكارك انت ؟
_ انا اكتب ولكن الشخوص هم من يقررون ما اكتب الامر كما لو ان هناك من يملي علي بالكلمات والاحداث كما لو ان الشخصية تكتب نفسها
_ عجيب
_ الامر عجيب اوافقك الراي
_ اذاً على هذا الاساس فانني لن اجدك بين طيات الكتاب
_ من المحتمل ذلك
_ نعم ولكنني كنت اظن ان الكتّاب جميعهم يكتبون عن امور مترابطة بذاتهم
كما لو ان رواياتهم وقصصهم تحتوي على جزء من ذكرياتهم وعواطفهم
_ لا يمكنني الجزم بانهم جميعهم كذلك لكن صدقيني اكثر الكتّاب يكتبون عن امور قد تخالفهم لان الكتابة تتطلب ذلك.
ايدت رأيه وعادت لاكمال روايتها بعد ان انهت صنع القهوة وبدأت باخذ رشفة صغيرة منها ، قال فالديمار وهو ينهض " سابدأ في مشروعي تمني لي الكثير من الحظ " ثم دخل الى غرفته وجلس امام حاسوبه بحث في ذهنه عن مقدمة تقليدية للرواية ولكنها لم ترضيه واصل التفكير بعدّة مقدمات وكلها لم تكن بالمستوى المطلوب ، اطلق تنهيدة وهو يشغل الحاسوب مرر اصابعه على لوحة التحكم وكانه يقتني حرفاً ليبتدء به الرواية حرفاً مميزاً يوحي بالمقدمة المنشودة ، توقف اصبعه على حرفٍ وجالت في ذهنه تلك التهويدة شجع نفسه بترديدها ورغم ان تشجيعه استمر لوقتٍ طويل الا انه لم يتمكن من كتابة شيء ، حاول مراراً وتكراراً الكتابة الا ان الامر لم يجدي نفعاً كل ما يكتبه لا يرضيه ، تحدث مع نفسه بشيءٍ من الغضب قائلاً " لم يتجمد عقلي هكذا من قبل ، مالذي حدث لتلك الافكار التي تتدفق حتى اثناء نومي ، ايعقل انني عاجز عن كتابة مقدمة ! كيف ساكتب رواية كاملة من ٢٠٠ صفحة ،بماذا ساحشوها من اين ساجلب رطل الكلمات ! "
تنفس الصعداء وهو يحك رأسه بيده اليمنى ، مسح ما كتبه بل لم يقتنع وحذف الصفحة وغادر برنامج الكتابة ، وضع المؤشر على ملف الصور لديه وضغط عليه حتى انعرضت امامه الكثير من الصور، بدأ بتصفحها والتقلب بين ذكريات كل واحدة منها ، بين الماضِ والحاضر، وقف عند صورة قديمة مع والده التقطها له في اثناء انغماسه في الكتابة ، كان يمسك فالديمار بقلمِ حبرٍ ازرق ويجلس على مكتب والده ويدون قصة ، ابتسم عند رؤيته لهذه الصورة وقرر ان يعيد احياء الماضي ، اخذ قلم حبرٍ ازرق من الجرار واغلق حاسوبه ومن ثم غادر الغرفة بعد ان حمل معه حزمة من الاوراق اخرجها من مطبعته ، توجه نحو مكتب والده ، كلما نزل السلم ضاقت انفاسه وتسارعت ضربات قلبه ، لم يكن يدرك ان مواجهة الماضي خانقة ظنها مواجهة عادية لاتخلف الا مشاعر الحزن في المستوى الذي اعتاد عليه حزنٌ طفيف كما يسميه لكن عند دخوله الى المكتب واشغاله الاضواء التي اعادت الحياة الى كل تلك الذكريات حتى تجمعت من داخل المكتب وتراكمت على صدره ، سرعان ما تساقطت الدموع من عينه وبدأ يشهق معلناً انه لم يكن حزناً طفيفاً.
سار خطوات وهو يتلمس مكتب والده ، مقعده ، كتبه ، لمس كل شيء ولكن لم يستشعر بوجود والده فيه كل ما في داخل هذه الغرفة ميت ، حتى الكتب ميتة كل شيء فاقد نضارته.
جلس بعد ان وضع حزمة الاوراق على المكتب وقرب رأسه منها وكانه يحاول ان يرى كتابة صغيرة غير واضحة اتضح انها كتلة من الغبار تطايرت من الطاولة نفخ عليها ليبعدها ومن ثم كبس على زر القلم ووضعه على الورقة ، بدأ بكتابة المقدمة :
ابي العزيز اتذكر حينما دخلت مكتبك واخبرتك عن حلمي ، كنت تجلس تماماً مثلي الان في مكتبك وظهرك منحني على الاوراق الكثيرة ، اخبرتك في وقتها انني ارغب في ان اكون كاتباً وشجعتني ووعدتني بانك ستستمع الى روايتي لانك لاترغب بقراءتها ، بصدق اكنت تعلم انك لن تعيش طويلاً ؟ ام قلتها بعفوية واخذتها الحياة على محمل الجد !
مهما كان السبب وراء ذلك ساقرأها لك تماماً كما ترغب ، لذلك ارجوك لا ترحل الى عالمٍ ابعد من ان تستمع الى صوتي فيه.
انغمس فالديمار اكثر في الكتابة وبدأ بسرد الرواية واصبح يغير الاوراق بعد ان تملئ بالكثير من المشاعر، ورقة بعد الاخرى يكتب وكانه واخيراً استجابت روحه المتعطشة الى تلك البركة الكبيرة وبدأ يغرف ويغرف ويرتوي من الماء ، اصبح يريح يديه بين الفينة والاخرى ليعود اكمال ما يكتبه ، الكثير من الكلمات تدفقت الى عقله حتى انه لم يمهل نفسه للراحة مجدداً قرر كتابة كل ما يملي عليه عقله كتابته حتى انهى حزمة الاوراق فقد تفاجئ عندما لم يجد ورقة فارغة فكل الاوراق ممتلئة بالمشاعر الان ، نظر الى المكتب بعد ان استقام بجلسته وفرك رقبته بيده ، ابتسم بارتياح لذلك المنظر فلم يصدق يوماً بانه سيحيى هذه اللحظة.
رتب الاوراق ووضعها في داخل الدرج وغادر مكتب والده بعد ان شكره لالهامه على الكتابة .
في صباح اليوم التالي وفي اثناء تناوله للفطور سألته والدته باندهاش قائلة : _دخلت الى مكتب والدك بالامس ؟
_ اجل
_ حقاً ! وكيف بدا ؟
_ فارغاً كيف كان يجدر به ان يبدو
_ لا اعلم ،انني افكر بغرابة ؛ فقط لاننا هجرناه لمدة طويلة
_ انا ايضاً ظننت بانني سارى ابي بداخله ،الامر غريب حقاً
_ لا اعلم لماذا فكرت هكذا ولكن يقال ان الاماكن المهجورة تسكن من قبل الارواح لعل والدك سكنه !
_ يسرني ذلك فقد كتبت الكثير بالامس ولو كان والدي بالفعل معي لشعر بالرضا
_ بالطبع سيشعر حتى وان كان بعيد عنك.
_ اجل ، بالمناسبة ساجعلك ايضاً تحبين شخوص روايتي وما اكتب ستصبحين عاشقة لهم وتهجرين روايتك وشخوصها
_ مابال هذه الثقة ، اخبرني ؟ روايتك ساحبها اوافقك بهذا الشأن ولكن لن اهجر ذهب مع الريح ابداً.
_ سنرى
_ ( ضحكت وهي تقول ) اعطني لاقرأ ما كتبت
_ لا يوجد تسريب للاحداث
_ ما هذا الم ترويها لي بالامس !
_ كان هذا قبل الكتابة
_ وماذا حدث بعد الكتابة ياترى ؟
_ حدث الكثير
_ الكثير مثل ماذا ؟
_ تغير بالاحداث وذكر تفاصيل مهمة ومؤثرة ودقيقة اين يكن لقد دونت ما ارغب بتوثيقه كاحداثاً فعلية بالرواية ولا اريد ان اعكر متعة القراءة عليكِ حينما تطبع
_ اذا ترغب بان انتظر ؟
_ ان كنتِ موافقة بالطبع
_ وإن لم اكن
_ ( ابتسم وهو يقول ) ستنتظرين ايضاً
_ ( ضحكت وقالت ) كنت امزح بالطبع لن اتعجل على قراءتها لانني ارغب بان اراك تبدع بها اكتبها على مهل واضف لها الكثير من العاطفة كي تصل لنا نحن القراء
_ انا لن اضع لكِ الكثير من العاطفة ، سانتزع قلبي واضعه بين طيات الكتاب
_ لا، احتفظ بقلبك في صدرك نحن نحتاج الى عاطفة فقط
_ ولم هذه الحاجة !
_ لاننا نلجأ الى الكتب ، وما هو الملجأ بنظرك ؟ مكاناً امناً دافئاً ، هذا ما تحتاجه العواطف عند الفقد والضياع والحزن فكل لاجئ هارب من حقيقة مؤلمة
_ اذاً ساضع لكم الكثير من العواطف اكثر من كل حجم عاطفة صادفتموه من قبل
_ لا اصدق
_ لماذا !
_ روايتك مأساوية جداً
_ امي ، لم تقرأيها بعد لاتحكمي عليها
_ حسناً انت محق ، سانتظرها اذاً .
عاود فالديمار الدخول الى ذلك العالم الصغير الذي تعلق به مؤخراً ( مكتب والده ) حيث اصبح لا يغادره الا عند تناوله للطعام او الخلود للنوم .
انهمك في الكتابة حتى فقد شهيته للطعام وفقد الكثير من الوزن ، ازداد قلق والدته واصبحت تجبره على تناول الوجبات حتى وإن وجبت الضرورة في ان يتناولها داخل المكتب ، وبعد ذلك الشهر المرهق اعلن فالديمار لامه عن خطوةٍ يرغب بفعلها ، كانت امه في تلك الاثناء تشاهد برنامج الطهي ، تجلس وهي مسترخية والمئزر يغطيها كانت الساعة الثانية مساءًا حيث جلس بقربها وقال وهو يمعن في النظر اليها :
_ ارغب باخباركِ عن شيء ما
_ ( التفتت اليه وقالت باصغاء ) تحدث
_ تدركين كم اقلق عندما اغادر المنزل ، وسبق وان ناقشتك بهذا الخصوص
_ نعم اذكر
_ انا حقاً لاتريحيني فكرة عدم وجود من يساندك ويحميك في غيابي ،اعلم انك ترفظين الحديث في هذه الامور لكن انا قلق جداً
_ ولم تقلق اولست معي ! ام لاتريحك فكرة بقائك معي ؟ لربما ترغب بخوض تجارب حياتك الخاصة والعيش لوحدك إن كنت حقاً ترغب بذلك ارجوك كن صريحاً.
_ امي انا احبكِ ومن المستحيل ان افكر في الابتعاد عنك لسببٍ كهذا
_ اذاً ما السبب الذي يجعلك تفكر بهذا الموضوع
_ في الحقيقة...هناك امر يجدر بي اطلاعكِ عليه
_ اجل وما هو ؟
_ ساغادر لمدة ربما لشهر او شهرين حتى انني لا اعلم ان طالت اكثر
_ لِمَ !!
_ ترين كم انني منغمس في الكتابة
_ اجل ارى ذلك
_ طوال تلك المدة لم انجز الا فصلاً ونصف
_ اوليس هذا امراً جيداً ؟
_ لا يا امي ليس جيد على الاطلاق ، ففي خضم كل هذه الضغوط التي اواجهها والتوترات الكتابية التي اعاني منها بشكلٍ مواصل كان يجدر بي ان انجز عملاً افضل من ذلك كان يجدر بي انهاء فصلين كاملين على الاقل ، لكن بدأت اعاني من فترة انقلاب حياته واصابته بالاعاقة ، لم اعبر عن الامر كما ينبغي ! لا اعرف كيف يسعني ان اشرح لكِ، تخيلي انني ارغب بتدوين الم شخص اصيب باعاقة ابدية وانا اسير بشكلٍ سليم ، شعرت انني لست منصف ولا اصف المه كما ينبغي هو محطم تماماً لكنني لو كنت معاقاً لما كنت ارضى بوصف " محطم تماماً " كوصفاً لحالتي ، كنت لاصفها بشكل اوضح واكثر تأثيراً ، كنت لاعبر عن مشاعر تخنقني . ولربما كنت لاتصرف بشكلٍ مختلف وما اصبحت انا ، لنكرت ذاتي ، لخلقت لنفسي ماهيةً اخرى قد اكون متمرداً او سلبي جداً او ابقى كما انا ، كل تلك الامور يا امي يجدر بي معرفتها يجدر بي تجربتها كي لا اخدع القراء بكلمات بلا روح كي لا اخدع نفسي ايضاً .
_ وما الغاية من رحيلك ، استتمكن من التعبير بشكل ملائم ؟
_ بالطبع ساتمكن فانا ساتقمص شخصية روايتي
_ ماذا !
_ يجدر بي ان احيى مثله كي اصل الى اعمق شعور لديه
_ اتمازحني ؟
_ لا يا امي انا جاد ، ساذهب الى دار الرعاية في اوديسا
_ لا اصدقك حقاً انها مجازفة كبيرة ، اولايعد هذا اختراقاً للقانون !
_ سبق وان اخذت موافقة رئيسة الدار
_ اذاً رئيسة الدار تعرف بانك تكتب رواية
_ اجل ولكنها الوحيدة من تعرف ذلك
_ لم وافقت ؟ اقدمت لها مبلغاً مالي
_ وهل اموالي تكفي للرشوة !
_ اذاً ماذا فعلت ؟
_ اخبرتها بان نجاح الرواية يمثل اعلاناً كبيراً وضخماً لدار الرعاية وستحضى بالكثير من الاهتمام ، و قبلت .
_ متى موعد سفرك ؟
_ غداً
_ أأنت جاد ! لم لم تخبرني من قبل
_ ها انا ذا اخبرتك
_ ( ابعدت المئزر عنها ونهضت وهي تقول ) يا الهي ، يجدر بي ان احزم حقيبتك واضع لك بعض الطعام
_ لا تقلقي انهيت كل شيء
_ لا يجب ان اتفقد ما وضعته في الحقيبة لربما غفلت عن وضع حاجيات مهمة
_ ( نهض ليعانقها وقال ) امي بالله عليكِ لا تتوتري كل ما ينقصني الان هو ان اودعك ، لا اعلم كيف سامضي تلك الايام دون ان اركِ
_ انا ايضاً لا يسعني تخيل المنزل بعد مغادرتك لكن ليكن في علمك بانني لن اسامحك ابداً ان تزعزعت او لم تقاوم الصعوبات التي تواجهك بالكتابة ، اريد ان اقرأ رواية مثالية ،اضافةً الى ذلك انا اثق بك دائما.
مطار كييف ، صالة المغادرة
الساعة الثالثة مساءاً
جلس فالديمار منتظراً وصول الطائرة للمغادرة ، كان متحمساً لتلك الرحلة لم يشك للحظة بانها ستكون رحلة ذات نتائج سلبية وبطبيعة الامور لا يوجد سبب يدفعه للتفكير بهذا النحو . بعد اعلانهم عن وصول الطائرة وطلبهم من المسافرين الاستعداد لركوبها نهض فالديمار وهو يمسك بحقيبة سفره التي لم تكن حقيبةً كبيرة كما توقعتها امه بل كانت حقيبة ظهر كل ما وضع بها بعض الثياب وحاسوبه الشخصي وبعض المستلزمات المهمة كفرشات الاسنان وغيرها ، ارتدى حقيبته وتوجه مع باقي المسافرين الى البوابة وحالما فتحت بدأو بالدخول الى الطائرة واحداً تلو الاخر ، قلب فالديمار لم ينبض بلهفة هكذا منذ مدة ، يبدو بانه يشعر بتقدم كبير فهذه الخطوة الجريئة لم يتوقع ان يخطوها من قبل .
اقلعت الطائرة وبدأ بمراجعة روايته ، نقح بعض الاخطاء ومن ثم تسللت عيناه الى النافذة ، كانت الطائرة مرتفعة بشكلٍ جميل فقد استساغ فالديمار منظر الارض بهذا الارتفاع ، مياه زرقاء وغيوم كثيفة وخضاراً شاسعاً ، كانت الواناً فقط لم تحمل تفاصيلاً دقيقة ، فلم يعد يعرف ان كان ذلك الخضار عائد لاشجار البرتقال ام الجوز ؟.
اعاد النظر الى روايته وكتب على ظهر الورقة الاخيرة " من الجميل ان تراقب العالم عن بعد فانك لن تهتم بتفاصيله بقدر اهتمامك بالوانه البارزة ".