الماضي ، ذلك الزمن اللعين الذي يقتل إستمتاعك بالحاضر ويشتت ترتيباتك للمستقبل ، أي حاضر وأي مستقبل ، أنا خادم ابن خادمة كيف عساني أن أستمتع بحاضري وأفكر بمستقبل ، ورغم ذلك فلدي ماضي لا يتركني لشأني ويعكر علي حياتي التعيسة ، منذ أن كنت صغيرًا رأيت أمي ... ها هي تناديني الٱن سأكمل في الغد .
كانت تلك الكلمات في صفحة من مذكرات ابن الخادمة الذي إختفى منذ أسبوعًا وطلب أبي مني أن أبحث عنه بدأت بالبحث في غرفته لعلي أجد ما يوصلني إليه ، كان شاكر غريب الأطوار ولم نتحدث منذ زمنًا بعيد بعد أن فقد نطقه لذلك لا أعلم عنه شيئًا ولا أستطيع التخمين أين يختفي أسبوعًا وجدت تلك المذكرات وليست بها إلا صفحة واحدة كتبت منذ أسبوع أما بقية الأوراق فقد تم قطعها حاولت أن أنفرد بزينات الخادمة وأن أسألها عما رٱه إبنها في صغره ولكنها أنكرت معرفتها لما ذُكر في مذكراته بسذاجة جعلتني أتيقن إنها تعلم ما يقصده إبنها ، صعدت إلى غرفتي وأعددت كوبًا من القهوة وجلست في شرفتي أسترجع ذكرياتي مع شاكر ، هذا الأبكم الذي كان لغزًا محيرًا منذ صغره
اذكر يوم ولادته ، كنت في السادسة من عمري حينها ، منذ ذلك اليوم ولمدة شهرين تعرفت على أمي من جديد ، وهي أيضًا ، كانت تسأل زينات عن الطعام المُفضل وعن مواعيدي ، لطالما كانت أمي تلك الطفلة المدللة ، هي من أسرة فاحشة الثراء وذات سلطة ، كانت تقوم بأعمال المنزل لأول مرة ورغم عدم قيامها بأعمال زينات جيدًا كان لها تأثيرًا خاصًا ، كنت أحب الطعام الذي تقدمه حتى لو كان سيئًا تمنيت لو أستمرت الحياة هكذا للأبد ولكن تعافت زينات وعاد كل شيء كما كان ، وعادت زينات تفعل ما تفعله الأمهات ، تربى ذلك الملاك الصغير ببيتنا ، كنت أحبه كثيرًا حتى ذلك اليوم ، كان في الثانية عشر من عمره حينها ، لا أعرف ما حدث له ، تحول حينها مائة وثمانين درجة أصبح لا يتحدث ، كيف يفقد النطق بين ليلة وضحاها هذا يحدث تأثير صدمة ما ولكن كل شيء كان طبيعيًا حوله كيف تغير هكذا ، أصبح أكثر عدوانية والشر واضحًا مرئيًا في عينيه ، نظراته ولأبي والمحيطين به كانت مليئة بالبغض والكراهية والحقد ولكن هذا لا يحدث معي كانت نظرته لي تختلف كان دائمًا يبتسم لرؤيتي
أتذكر أيضًا من عام عندما كان قد تخطى العقد الثاني من عمره ، عاد إلى المنزل وملابسه ملطخة بالدماء ومنذ ذلك اليوم لا نعرف السبب ولكني سمعت حينها عن حوادث قتل لبعض الأغنياء في البلدة وحقيقًة بداخلي شكوك كثيرة تقول إنه الفاعل ، كيف لطفلًا بتلك البراءة التي كان عليها أن يصبح بداخله ذلك الكم من الحقد والكراهية ، كان شاكر يختفي بين الحين والآخر ولكن لا يتجاوز إختفائه يومًا ، للمرة الأولى يستمر لأسبوعًا ، وما أعرفه أيضًا وأكتمه بداخلي ، بعد إختفاء شاكر تنتشر أخبار بمقتل شخصية عامة ، لذا أنا أعتقد إنه تم القبض عليه أو قتله إذا كانت شكوكي حوله صحيحة
فجرًا أستيقظنا على صراخ زينات ، عاد شاكر اخيرًا وملابسه ملطخة بالدماء مرة أخرى ولكن تلك المرة وجهة مدهونًا باللون الأسود ، وصباحًا إنتشر خبر مقتل أحد رجال مجلس النواب وعن القاتل فلم يستطيعوا الإمساك به حتى إنهم فشلوا في التعرف عليه لدهن وجهه باللون الأسود !
قرأت الخبر لأبي وظل صامتًا لا يعرف ماذا يفعل ، قلت له أن نبلغ الشرطة عن هذا السفاح ولكنه رفض بشدة ، حتى إنه رفض أن يطرده من المنزل بلا سبب ونهرني بقسوته المُعتادة ، في اليوم التالي إنتظرت خروجه من المنزل وتسللت إلى غرفته وجدت مذكراته ولكن تلك الورقة تم قطعها أيضًا بالإضافة إلى نقص عدد الأوراق البيضاء ، يبدو إنه دون الكثير من الأحداث وقطعها أيضًا ، لم يكن أمامي أي حلول سوى مواجهته ، إنتظرته حتى عاد ، تبدلت ملامحه القاسية وملئ وجهه إبتسامة إفتقدتها كثيرًا ، جلس أمامي وظل يبتسم معبرًا عن فرحتي بزيارتي له في غرفته ، لا يحتاج للكلمات ، فالأعين تتحدث عما بداخلنا أفضل من الفم ، تحركت عيناه للجريدة في يدي فتذكرت إنني هنا لأوجه له بعض الإتهامات ، وجهت أصابعي ناحية الخبر لتنقلب إبتسامته لنظرة حزن ثم أطرق رأسه إلى الأرض وحركها بالإيجاب ثم تركني وذهب ، ذهبت خلفه بهدوء حتى لا يراني ووجدته يصعد أحد البنايات القديمة ويدخل إلى أحد شققها ، حاولت التصنت حتى أعرف إذا كان يسكنها أحدًا غيره ولكن مضت حوالي نصف ساعة ولم أسمع أي صوت ، عدت إلى المنزل وأنا مشتت ، ماذا أفعل ، بداخل شاكر ذلك الطفل ، مازال يرقض ويلهو ، ذلك السفاح بالخارج ، من هو ، من المسؤل عن نشأته وظهوره ، زينات ، أعلم إن خلفها سرًا ما سيوصلني إلى الحقيقة نزلت إلى حديقة المنزل والتي بها غرفتها وغرفة شاكر ، سألتها "مش ناوية تقوليلي عن اللي شاكر كان كاتبه في الورقة"
- يا محمد بيه وأنا هعرف منين بس ، بيقول لما كان صغير ومكملش ، هنجم أنا يعني .
عينا زينات كانت تقترب أن تنطق وتخبرني بإن ذلك الفم اللعين يكذب ، أليست الأعين أحق بالحديث ؟! ، هي لا تكذب أبدًا ، رأيت شاكر يدخل غرفته ووجهه مدهونًا باللون الاسود مرة أخرى ، عرفت إنه قتل أحدهم ،
كادت رأسي أن تنفجر ، أقتحمت غرفة شاكر وكاد صوتي أن يصل لأعالي السماء أخبرته إنه سفاح بلا قلب ، أدفعه وأضربه وهو لا يتحرك ، فقط ينظر إلى الأرض ويبكي ، طردته من المنزل وخرج دون أي فعل منه ، كان أبي قد حضر لسماعه صوت صراخي ، عيناه كانت مملوءة بالخوف ، زينات جلست على الأرض تبكي ودار حوارًا بين عيني وعين أبي ، نظرات الريبة والشك مني وحسرة الندم على وجهه أراها لأول مرة ، ظل الوضع هكذا حتى أزداد سوءًا بزيارة غير مرحب بها على الإطلاق ، كانت الشرطة تبحث عن شاكر !
يبدو إنه قد فشل في الهروب الجيد تلك المرة ، لا أعلم لما لم أخبرهم عن تلك الشقة التي أعلم إنه يسكنها الأن ، ولا أعلم لما قادتني قدماي لأحذره ، بعد إنصراف الشرطة ذهب له ، طرقت باب الشقة ، فتح الباب بحذر ، عند رؤيته لي كان فعله غير متوقع تمامًا ، إحتضنني شاكر ثم إنهمر في البكاء ، دخلنا إلى الشقة وإذا بي أجد الكثير من الصور لأبي وزينات بملابس الزفاف !
لم تستعب عيناه ما تراه ، لتتفاجئ ٱذناي هي الٱخرى بصوت شاكر !
وفي تلك اللحظة لعبت دور الأبكم وتركته يتحدث ، منذ أن كان صغيرًا رأى أمه في أحضان أبي ، يفعلا ما جعله في شدة صدمته ، وعندما واجه أمه بالأمر أخبرته بكل شيء ، أخبرته عن زواجها بأبي قبل أن يتزوج أمي ، كان أبي يعمل لدى أحد أكبر تجار المواد المخدرة ، كان مساعده الأول طلقها أبي ليتزوج بإبنة هذا التاجر ، وحتى يضمن صمتها جعلها تعمل في ڤيلته كخادمة وزوجها حارس الڤيلا ، ولكنه ظل ياصرف معها كزوجها حتى حملت منه ولإن زوجها الجديد كان على علم بعدم قدرته على الإنجاب كان سيقتلها ولكن سبقه أبي وقتله ، ومنذ هذا الحين تعيش أمي في المنزل كخادمة وعاهرة لأبي ، حتى رأيتهم ، طلبت مني أمي أن أنسى ما حدث وأصمت ولا أتحدث عنه أبدًا فأبي يمكنه قتلي بدمًا بارد إذا أحس إنني أهدد عرشه وأخرب حياته مع إبنه سيده ، كبرت والنار تحترق بداخلي ، لا يجب أن أتحدث ، لا يجب أن اتسبب في أذيته أيضًا هو أبي مهما حدث ، قررت يومها ألا أتحدث أبدًا وأن أنتقم في كل من يستغل ماله وسلطته ساترًا له عن وجهه القبيح ، كل من قتلتهم يا أخي هم فسدة ومجرمين ، أقتلهم ووجهي ملونًا بلون قلوبهم ، البشر سيئون ، هكذا تعلمت ، جميعهم يمتلكون وجهان ، تعلمت ألا تخدعني مظاهرهم ، جميعهم يستحقون الموت .
أقترب مني ثم أكمل حديثه "عداك أنت يا أخي" وأحتضنني .
لم أتحدث قط ، هول ما سمعته أفقدني القدرة على الحديث وإستيعاب ما يحدث حولي ، تركت أخي وخرجت ولا أعلم إلى أين أنا ذاهب ، لم أبتعد كثيرًا حتى رأيت الشرطة تحاوط البناية ، قد عرفوا بأمره ، ثوان وسمعت دوي الرصاص ، جريت نحو الشقة ، أقتحمت زحامهم ، ملاكي الصغير ملقى أرضًا ودمائه الشريفة تحاوطه ، قبلت رأسه وأغمضت عيناه بيدي ، وداعًا يا أخي .
منزلنا ، أبي يقرأ الجريدة وإذا به يسمع طوت خطوات تدنوا منه ، يرى شخصًا يمسك بمسدسًا ووجهه ملون باللون الأسود ، لا ينطق ، فقد يشد أجزاء سلاحه ويوجهه صوب رأس أبي ، إنحنى أبي أمامه وهو يبكي ويترجاه أن يرحل " أرجوك يا شاكر ، ارحمني ، أنا أبوك يا شاكر ، أنت أكيد مش هتصدقني ، إسأل زينات ، إسأل أمك ، صدقني أنا أبوك ، متعملش حاجة تندم عليها بقيت عمرك"
قد أخطأ مرة أخرى عندما أعتقد إنني شاكر ، قررت أن أجعله يغلق فمه إلى الأبد ، قررت أن أخلص العالم منه ومن أمثاله ، قتلته ولن يكون الأخير ، سأكمل ما بدأه أخي ، بوجهي الملون بلون قلوبهم ، بلساني الساكن ، بالصمت.