الفصـــــل الأول

2.9K 214 91
                                    

ظلام حالك يغلف كل شئ حولها وأصوات عالية وصرخات حادة تخترق رأسها، أستعادت القليل من ذاكرتها، كانت تسمع صوت صراخها وصوت تحطم، وفجأة ثقب أسود، أغمضت عيناها بقوة محاولة طرد تخيلاتها عن عقلها إذ كان يبث بداخلها رعباً وخوفاً أكثر من واقعها الأليم المأساوي، كان المكان خالياً مظلماً والجو في غاية البرودة وهى ملقاة على قارعة الطريق لا حول لها ولا قوة، رفعت بصرها الى السماء تدعو ربها وتستغيث لأجل نجاتها، تكاد تموت برداً وذعراً، ظلت بتبكي وتصرخ وجسدها يتلوى من الألم، ألم قاتل غير محتمل، أحست بثقل رأسها الذي سُحق تحت تلك الصخور الجرداء بعدما تدحرج جسدها حتى وصلت إليها، تحسست بيدها الأرض ذات الملمس القاسي تحتها وحاولت النهوض لكن لم تفلح ولم تستطع رؤية ما حدث لقدمها العالقة بين تلك الصخور لكنها كانت موقنة أنها سمعت صوت سحق عظامها، أحست بشئ حار يسيل بجانب وجهها وطعم لزج في فمها، كانت تلك دمائها تقطر بغزارة من رأسها المهشم لتشعرها بالدفئ وسط برودة الليل القارصة، أحست بعيناها يغشاهما السواد وكأنها تغرق في بحر عميق وإذ بجسدها يتراخي وأنفاسها المتصاعدة تقل شيئاً فشيئاً وأصبحت رؤيتها ضبابية وهى تتلاشى ببطئ في الظلمة وأغمضت عيناها مستسلمة لقدرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

جلست مُتربعة على الشرفة وبرفقتها صديقتها المقربة وهى تعزف على الغيتار وأنكب وجهها الأبيض كالثلج على الآلة الموسيقية وإبتسامة صغيرة مرتاحة ترتسم على شفتيها الأشبه بلون الكرز وتعابير وجهها الملائكي وهى تعزف على الغيتار صانعة ألحانها بنفسها، رقيقة كانت هذه هي الصفة الأولى التي يفكر بها من يراها لأول مرة بنظرات عيناها التي توحى بالبراءة والنقاء، كانت تغني وتعزف بعذوبة فهى تجيد العزف منذ أن كانت طفلة وقد أخذت دروساً في العزف منذ صغرها وخضعت لعدة امتحانات في مادة الموسيقى وعزفت على عدة آلات موسيقية ولكن يبقى غيتارها الجميل بأوتاره ذات الرنين الشجي هو الأحب إليها، استدارت على يمينها وهى تضع الغيتار حين أنتهت من العزف، أبتسمت مظهرةً أسنانها اللؤلؤية وغمازتين تعلوان وجنتيها وهى تحدق بصديقتها التي أخذت تصفق لها بحرارة وتطلق صفيراً بصوت صاخب بحماس، وقالت لها:
- كفاكِ إزعاجاً ناتالي ستوقظين الجيران هكذا.
أجابتها صديقتها ناتالي ضاحكة: ليس الأمر بيدي فأنني أتحمس كثيراً لدى سماع صوتك الرائع وعزفك الشجي، ما رأيك أن تمتهني الغناء والعزف بالتأكيد ستصبحين فنانة مشهورة جداً.
- تعلمين يا ناتالي أن الغناء والعزف مجرد هواية لي ليس أكثر.
- هيا أعزفي لي من جديد.
- حسناً لنرى!!
وضعت ساقاً فوق الأخرى وأرتكزت بغتيارها على ساقها العليا التي تدعمها وحركت أناملها بنعومة على الأوتار وبدأت بعزف مقطوعة عذبة من روائع باكو دى لوسيا عازفها المفضل، كانت موسيقاه الأندلسية تبعث الحماس والحرارة والنشوة بروحها، ظل عقلها يتحرك في مسافات صوتية واسعة مثل ألحانه التي لا تُطمئن صاحبها ولا تُهدئه ولا تجعله تعرف شعور بالاستقرار بل تواجهه بجمال عنيف لا يهادن، ظلت صديقتها ناتالي تستمع الى عزفها وعلى ثغرها إبتسامة عريضة مرحة وهى تجلس أمامها على الأريكة، كانت ناتالي فتاة جذابة بعينان فيروزيتان وشعر مموج مصبوغ باللون الأحمر وقد قصته على أحدث صيحات الموضة ويسترسل بتدريج رائع حول وجهها وبشرتها الوردية وتتمتع بقوام رشيق ومتناسق وقامة طويلة وهى أطول بقليل من صديقتها ميراي، تعيش مع جدتها فايدرا والدة أبيها بعد وفاة والدتها أماليا في حادث سيارة، كانت في الحادية عشر من العمر أنذاك، أما والدها فقد أختفى من حياتها تماما، وأخذتها جدتها فايدرا للعيش معها في مدينة فلورينا وبدأن حياة جديدة هناك بتلك المدينة الجديدة وهكذا ألتقت بميراي وأصبحن منذ ذلك الحين صديقتان حميمتان وكانت صداقتهن الوفية مضرباً للامثال.
توقفت يداها عن العزف فجأة حين أخطأت بأداء مقطع موسيقي ما على الأوتار لتظهر على قسمات وجهها أمارات الضجر وقالت: لا أحد يستطيع أن يضاهي باكو دي لوسيا أبداً، فالمعروف أن عزفه لا يسير على وتيرة واحدة ثابتة ويتخلله توقف مفاجئ وسكون وأنتقالات سريعة مباغتة.
إبتسمت ناتالي بسذاجة وقالت:
- حسناً سأدعي فهم كل ما كنتِ تقولين، لكن عزفك كان أستثنائي كالعادة.
- شكراً لك.. هيا دعينا نذهب ونأكل شيئاً فأنني أتضور جوعاً.
سارت الفتاتان إلى خارج الغرفة وأخذتا تنزلان بمرح على الدرج الضخم المصنوع من خشب السنديان الداكن ويقع أسفله في المنتصف بهو كبير فسيح ومربع الشكل وطاولة كبيرة تنتصب في وسطه طاولة دائرية عليها جرة نحاسية كبيرة مليئة بآزهار اللافندر العطرة كانت تبتاعها ميراي بكل صباح من محل الزهور بالشارع الرئيسي من منزلها وتتوهج بدفء وترحب بالقادمين عند الدخول عبر باب مدخل المنزل، ذهبن إلى المطبخ ووجدن بالداخل مربيتها سارا وكانت ترتدي مئزراً الطبخ وتُحضر وجبة العشاء.
- ماذا تفعلين سارا؟ لما تعدين الطعام بنفسك؟ هذا ليس عملك.
قاطعتها سارا بأبتسامة حنونة وقالت:
- هذا ليس الأمر الجلل عزيزتي.
- وأين هى آيونا؟
- أنها مريضة بالزكام وترقد طريحة الفراش.
- آه حقا؟ يا للمسكينة، لابد وأنه بسبب هذا الطقس الممطر الردئ، أرجوكِ سارا أحرصي على جلب طبيباً لأجلها.
قالت ذلك وهى تجلس على مائدة المطبخ وبجانبها ناتالي، وضعت سارا أمامهن شطائر الدجاج البارد والبطاطا المقلية والسلطة وبعد العشاء ذهبن سوياً لأحتساء القهوة في غرفة الجلوس وهن يجلسن أمام المدفاة، كان جو الغرفة لطيفاً جداً ويوحي بالدفء والطمأنينة.
- ناتالي علي أن أشكرك لوجودك معي هنا، أعلم أنني لم أستطيع العودة إلى فلورينا بالأشهر الماضية لكنك لا تدرين كم كنت بحالة فوضى هنا، أن عملي يشغل كل وقتي ولدي عرض أزياء أخر عما قريب، تعلمين طبيعة الحال.
- بالتأكيد، أن عملي يصبح ضاغطاً جداً أيضاً لهذا أعرف شعورك جداً، ولهذا أتيت لزيارتك وتفقد أحوالك، لأنني أفتقدك بشدة لست أنا فحسب بل جدك ووالداك والجميع أيضاً في غاية الشوق إليك إليا.
تسمرت لحظة وظنت أن آهة كادت تخونها وتنطلق منها وزاد شحووب وجهها من ندم ناتالي وشعورها بالحرج فأعتذرت قائلة:
- لا أحسب أنني قد اعتدت على أسمك الجديد.
فكرت ميراي بشئ من الارتباك بأن هناك أشياء لا تموت بسهولة أبداً، ولطالما شعرت أن طبيعة مشاعرها قد تغيرت، إذ من المفروض أنها أصبحت ميراي وليست إليا، فهل يا ترى تحررت من حياتها السابقة كما تحررت من إسمها؟
مرّت لحظة صمت طويلة بالغرفة ولم تجب ميراي ثم قالت في صوت خفيض:
- أنني متأكدة بأن أفراد عائلتي يشيطوا غضباً مني، كوني صريحة معي وأخبريني بهذا فإنني لن أشعر بالحزن بل بالفراغ فحسب.
كانت ميراي من النوع الذي يفضل الكتمان فهي لم تكن لتستخدم هذه الكلمة الا في وصف حالة بسيطة من الأضطراب العصبي الذي يحدث بداخلها، أنها تحب عائلتها كثيراً رغم أن والديها لديهم المبالغة في تهويل الأشياء ولا يجدون فرصة ألا ويتوانوا في أنتقاد حياتها المستقلة وفي كل مرة تعود بها للمنزل تزداد الأمور سوءاً بينها وبينهم لكنها لم تتوقف عن زيارة المنزل حتى لا تُصبح غير مرحبة بها بالفعل، تذكرت ميراي الجو العدائي الذي أعقب مغادرتها منزل والديها الواقع بمدينة فلورينا،
تمنت لو سمعت شخصاً واحداً يتمنى لها التوفيق بحياتها الجديدة حتى جدها الذي تعتبره أقرب شخص إليها ودعها بجفاء شديد أفهمها أنها خيبت حسن ظنه فيها، تنهدت ناتالي بأسئ وهى تطالع صديقتها الصامتة المنكسرة أمامها بالرغم من أدعائها عكس ذلك فرغم أنها قوية الشخصية دائماً ألا أنها حساسة جداً عندما يتعلق الأمر عائلتها، ربتت ناتالي على كتف صديقتها في مودة وهتفت بمرح في محاولة منها أن تُبهجها: كفاك عبوساً عزيزتي، أنني متأكدة بأن زوجي المستقبلي سيقوم تهدئة الأوضاع بينك وبين والداك كما يفعل دائماً.
إبتلعت ميراي الضحكة التي تكونت في حنجرتها وتابعت تقول:
- عذراً أن كنت تقصدين بزوجك المستقبلي هذا جدي الحبيب أرسلان فتعلمي أنني لا أقبل أن يشاركني أحد ابداً.
- آه ليس الآمر بيدي الا أقع بغرامه، تعلمين كم هو لطيف ولبق ووسيم جداً وجذاب.
أمسكت ميراي بوسادة الأريكة وقذفتها نحوها وقالت:
- لا أصدق إنك تتغزلين بجدي أمامي.
أجابتها ناتالي وهى تحاول إغاظتها:
- آه لا تكوني غيورة.
وسرعان ما سددت ناتالي ضربة على وجهها بالوسادة شهقت ميراي بصوت ضاحك وبدأت بمهاجمتها وهى تسدد لها الضربات بالمقابل وبدأت حرب الوسادات بينهما ضحكاتهن المجلجلة وبعد فترة من اللعب والضحك، جلسن على الاريكة وبدأن يتجاذبن أطراف الحديث لساعات طويلة وضحكاتهن تعلو مرة تلو الأخرى من محادثات لطيفة وممتعة.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 26 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

أسًـيٰر قلــبٰٰها حيث تعيش القصص. اكتشف الآن