طالب العلم المريض

13 1 0
                                    


في احدى ليالي الصيف العليلة النسمات مكتملة البدر .. ;كنت أجلس في أحد الحقول في أحد المدن الريفية مع صديق قديم كنا نتذكر أيام الطفولة وما جرى من أحداث فيها وفي خضم حديثنا سألني صديقي ذلك فجأة :
- قلي يا صديقي ما أغرب ما مر عليك في حياتك ؟
.. فاجبته بنظرة ازدراء واستغراب :
- وهل بلغت مائة عام حتى تسألني هذا السؤال؟!! لم يمر علي طبعا أي شيء هو الأغرب.

فسكت وشعرت أني أحرجته بردي ولم أكن لأعبئ لولا أني تذكرت شيئا فأسرعت باكمال حديثي :
- ولكن أتعلم ؟!! سأخبرك بأغرب قصة سمعتها في حياتي ..قصة قصها علينا مدرس لمادة الرياضيات في المدرسة .. وكانت مناسبتها غريبة أيضا ,,,,,

أمر مدرس الرياضيات أحد الطلاب بجمع دفاتر باقي الطلاب حتى يقوم بتصحيح الفرض المنزلي الذي أعطاه لنا بالأمس فقام ذلك الطالب بجمع الدفاتر ووضعها أمام المدرس الذي بدء بعدٌها فاخذ يقلبها واحدا وراء الأخر حتى فجأة توقف عند أحدها وبدى أنه يقرأ شيئا على الغلاف ثم قال :
- أين خالد ؟
فرفع خالد يده , فسأله الأستاذ :
- من كتب لك هذه العبارات على دفترك؟
- جدي ..
- هل يعيش جدك معكم ؟
- لا .. توفي منذ خمسة أعوام .
فاستغرب الأستاذ ,فكيف كتب جدك على دفتر جديد وهو متوف من خمسة أعوام !! فسأل الطالب عن ذلك فاجاب :
- نعم ولكن هذا فقط على الغلاف الذي يقوم والدي بتبديله كل عام مع دفتري الجديد.
فرأيت المدرس عندما سمعها قد (صدم جدا) من الجواب وحتى أنه فقد قليلا من توازنه فأسرع وجلس على أحد المقاعد وأمرنا باغلاق كتبنا . ثم قال : سأقص اليوم عليكم قصة أرجو أن تجد لها مكانا في عقولكم وقلبوكم ..

في ذلك الجامع الكبير الذي كان تقام فيه كل أصناف الدروس للعلوم كعلم القرآن و تجويده وعلم النحو وتصريفه وعلم الفلك و فنونه وعلم الرياضيات و معادلاته وفن الشعر وقصائده و..الخ من العلوم وكان يقصده كل من رغب بكسب العلم و رفع رايه المعرفة و أعطى نفسه الهمه و والاقدام لاقتحام عالم العلم الذي لا ينتهي ويسلك أغواره التي لا تنقطع وكان يتردد على تلك الدروس رجل قد جاء جديدا على المدينة , قد فتح دكانا للخياطة بجانب ذلك الجامع الكبير وكان يحرص كل الحرص على حضور عدد كبير من الدروس وكان يدعى عبدالرحمن واشتهر خلال فترة قصيرة جدا بعبدالرحمن الخياط .. فقد كان ماهرا جدا و متقنا لفن الخياطة بجانب علمه المثير للدهشة والاعجاب من قبل علماء تلك المدينة ومن عرفه, وفي يوم سؤل عبدالرحمن الخياط ذلك عن مصدر علمه الكبير ومهارته في حرفته وفنه فقال :
لقد نشأت مع والديَ اللذين لم يكن لديهما ابن سواي وكان والدي تاجرا وكنت أساعده في تجارته وانميها له وبقي حالي كذلك سنينا وكانت تلك التجارة تزدهر عاما بعد عام و اهتمينا ووالدي بأمرها وانشغلنا بأحوالها حتى أتى يوم أصاب والدي مرض عضال لم يستطع الأطباء تشخيصه ولا النزول عند دواءه فطرح والدي في فراشه لا يقوى على شيء فاهتمت أمي بشؤونه وأنا اهتممت بتجارته ومازال المرض يثقل على والدي حتى فقد بصره وخارت قواه فما عاد يستطيع تحريك أطرافه ولم يمر على ذلك وقت طويل حتى توفيت والدتي حزنا على ماحل بأبي ومن يومها بدأت أنا أهتم بشؤونه و بشؤون تجارته حتى أتى يوم طلب فيه مني أن أقرأ له شيئا من القرآن وبعد أن أفعلت قال :
- أتعلم ياولدي كم أنا نادم! .. لأني لم أأخذ شيئا من العلم ولم أحفظ شيئا من القرآن في شبابي ,, كم كنت لأكون سعيدا الآن.
- لا عليك .. سأساعدك في ذلك.
ومن يومها بدأت بتحفيظ أبي القرآن الكريم.. تلقينا .. فكنت أقرأ له الصحيفة الواحدة وأحيانا الآية الواحدة طوال ثلاث أيام لا أفتر ولا أمل وكان هو يجد لذلك لذه وغبطة قد وهبها له رب العالمين فرضي بمرضه وألمه وفقد بصره وصار شغله الشاغل تلقيني له القرآن وبدءت أيضا بحضور دروس العلم كي أحدث والدي بما أسمع من علم وقصص وسير وأحاديث ونوادر الأخبار و أحوال البلاد والعباد والطرائف و المسائل الفقهية و الأدبيه والمقارانات والأدب والشعر... من أجل ذلك كان لا بد من ترك التجارة والتفرغ لطلب العلم لوالدي فلقد كنت أنا سمعه وبصره ويده وكان هو شغوفا بذلك قد نسي مرضه وتعبه وألمه وكأني بذلك قد أعدت له شبابه وحماسه.., ولأن الحياة تحتاج للمال أيضا لذلك و من خلال حضوري للدروس ونصيحة والدي بعد أن علم أن مالدينا من مال بدئ بالنفاذ بأن أتعلم حرفه تقيني الفقر والحاجة وتصقل في نفسي الصبر, فكان علي أن أختار حرفه أستطيع عملها عند والدي فلم أجد أفضل من الحياكة وفعلا ثابرت وبذلت الجهد حتى تعلمتها فكنت أعمل بحياكة الملابس وأنا ألقن والدي القرآن وأحدثه بما سمعته ودونته له , وما أصنعه في الليل أذهب وأبيعه في النهار وأعيش مع والدي من كسبه ومرعلى ذلك ثلاثة أعوام حفظ أبي خلالها القرآن وتعلم من العلم ما جاد الله به عليه وصار محدثا قد سرى العلم في عقله والحكمة على لسانه و صار شاعرا مفوها يعلم أين توضع الكلمة وأين تقال الحكمة فتحول من مستمع لي لمعلم فأخذ يعلمني ويحدثني عن خبرته وحياته وقصصه واستنتاجاته ,, بالاضافة إلا أني وبالطبع حفظت القرآن بالضرورة و صار عندي من العلوم والأخبار و الاجتهادات الشيء الكثير ،وملئت الكتب والصحف المنزل إلى جانب أني أتقنت حرفة الخياطة اتقانا لم ينافسني أحد فيه , ولم يمر وقت طويل بعد ذلك وجاءت الساعة الأخيرة من ساعات المرض والحياة, استيقظ أبي في ساعة متأخرة من الليل وهو يأن من شدة ما أصابه من ألم فهرعت له وأمسكت بيده فقال :
- أسمع يا ولدي أعلم والله أني قد أثقلت عليك وأنك كنت خير ولد لي وها أنا الآن بين يدي العليم الرحيم لا أعلم إن كانت ستطلع علي شمس أم لا .. وإني والله راض عنك , خجل منك لا أعلم كيف أجازيك بما صنعته لي .. وإني سألت الله بحق طلب العلم وحفظي لكتابه في مرضي وشدتي بأن يجازيك عني بما صنعته لي.
وتوفي والدي وبكيته كما لم أبك على أحد قبله فقد هيئه الله ليكون بابا لشيء لم أكن أحسب أبدا أني داخله وهو باب العلم والكسب بحرفه اليد ... توفي والدي بعد أن كان يستطيع ترك ثروة لي من المال والدور والحقول .. ولكنه أورثني علما وقرأنا وحرفه فكان ذلك عندي لا يعدل أموال الأرض ولو جمعت لي ولا سعادة الدنيا ولو بسطت لي ....
وكنت كل مادخلت المنزل ترائى أمامي بمرضه وألمه جادا في التعلم صابرا محتسبا هانت الدنيا في عيني وصغر أمامي كل شيء فعلته له وتعلمته من أجله .. ومن بعده وبفضل دعائه لي فتح الله أمامي الأبواب من كل جانب وصرت حديث الناس في مدينتي و أوقع الله حبهم لي وقبولهم لي فقربوني منهم وأنزلوني منزلا عظيما وزوجوني من بيت حسب وعلم ورزقني الله بذرية هي لي الآن خير مؤنس ولأن والدي لم يكن ليغب عن تفكيري لحظة ولأني أردت الاستزادة من طلب العلم في منبعه وأصله قصدت مدينتكم الكبيرة بعد أن حولت منزل أبي لمدرسه ووهبته لأهل مدينتي, و أكتريت دكانا قريبا من الجامع الكبير أتكسب منه وأحضر دروس العلم غير منقطع عن ذلك مكملا طريقا بدأته مع أبي ... هذه هي حكياتي وقصتي وضعتها بين أيديكم علها تكون عبرة ولغيري فكرة.

أنهى بذلك أستاذ الرياضيات سرده وختم كلامه فقام من مكانه و توجه إلى اللوح المعلق على الجدار وأمسك ( الطبشورة ) ثم نظر إلى دفتر خالد نظرة خاطفة و كتب "على ما اذكر" :

لا تخشى الفقر وأنت للعلم طالب ... فالغنى وكل الغنى فيما أنت تطلبه
إن شربت من كأس العلم قطرة ... روتك كما لا يرويك نهر انت شاربه
فكن رجلا خلوقا راشدا وبالعلم ... تزود فالرجل بالعلم تعلو فضائله

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 03, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

طالب العلم المريضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن