جدتي لا تكذب أبدا

19 2 0
                                    

جدتي لا تكذب أبداً
ملابسٌ بالية، وغطاءٌ مهترئ، نافذة مهشمة وباب لا يقوى على الاحتمال، جميعهم يشاهدون في صمتٍ ويقفون عاجزون أمام ذلك البرد الذي ينخر في عظامي
لماذا يأتي الليل إذاً، إن لم يحمل لنا السكينة، لماذا لم يدع الشمس تكمل مسيرة الدفيء حتى نشعر بأجسادنا، نشعر أننا أحياء، تساؤلات كل ليلة لا تمل  منها نفسي ، أنفخ في يدي بشدة لعلها تشعرني بالدفيء، أو ربما بعض من الأفكار تراودني حتى أغط في نومٍ عميق.
ابتسمت في استنكارٍ وأنا أردد
-لعل حالي اليوم أفضل من البارحة، لازال في غرفتي بعض الطعام، ربما يحل علي الفجر بالنور فأمكث في عملي أكد وأتعب حتى تحل علي لعنة التغيير.
نعم يا لها من لعنة تجعل الأنوف مرتفعة، وعيون البشر تنظر باستهجان لكل من هم أقل منهم، أقدامهم تخاف أن تطأ الأرض حتى لا تتسخ.
يالها من لعنة ماكرة
أرفع رأسي إلى ذلك السقف الذي لازال صامداً أمام الشتاء وأنا أهمس في أسى
-هكذا يا جدتي، تتركيني وحيده، ألم تخبريني أنك ستبقي معي، أين أنتِ، أناجيكِ في كل ليلة، ولا أجد الجواب، أحادث الجدران فترد بأنين صدى حزني
لم يتبقى لي منك سوى اسمي، أو اسمك " نانيس" ،  تنهدت بحسرة ولازلت أحادث نفسي
نانيس هو اسم جميع جداتي، هكذا أوصتهم نانيس الجدة الفرعونية الأكبر، أن يظلوا يخلدوا اسمها إلى الأبد، لعل الاسم يربطنا جميعا برباطٍ مقدس كما كانت تعتقد هي.
نانيس، زهرة فرعونية، لا أملك من عبيرها شيء، أوراقها الزاهرة لا تضاهي جسدي الهزيل من كثرة العمل، ساقها وتلك الأرض الخضراء التي تحيا بها، لا أراها سوى في أحلامي،  تحسست رأسي بأيدي مرتعشة
لعلي قد اصابني البرد بحرارة زائدة ، جسدي  يتعرق بشدة، ,وأطرافي ترتجف،  غلبني النعاس ، واليأس يتسلل إلى قلبي ودموعي تحتضن الوسادة. ، لا  يتردد على شفتاي سوى  " نانيس"،
مرت عدة لحظات في صمت مخيف، أصوات أقدامٍ تقترب بخُفٍ له كعب صغير، كلما اقترب الصوت شعرت بأنها تقرع أبواب الخوف بداخلي، أحاول أن أرفع أجفاني لكن لا أرى ألا الضباب فتعود لحالة السكون مرة أخرى.
اندفع باب الغرفة ، شعرت بأحدهم يقترب مني، همس بخفوت
-نانيس حبيبتي استيقظي
انتفضت  وكأني صعقت بجهاز تنفس كي أحيا من جديد.
شعرت ببرودة يديها، نعم إنها أنثى صوتها أوحى لي بذلك، تجمد الدم في عروقي، سحبت غطائي في هدوء، ورددت في ثقة
-لا تقلقي عزيزتي، حضرت كي تطمئني
ثم أردفت وهي تحاول أن تحتضني
- أنا هنا كي أمحو الحزن عن قلبك
انتزعت يدي مسرعة وعيناي تحملق في وجهها المنير في ظلام الغرفة، ورددت بكلماتٍ متقطعة بذعر
-من .... أنت، وما الذي ....أتي بك إلى هنا" أقولها وأنا ابتعد عنها وأحاول أن اختبئ برأسي تحت ذلك الغطاء؟، لعلي أحلم فاستفيق
رفعت الغطاء مرة أخرى عن جسدي، وهي تبتسم، اقتربت مني مرة أخرى، ورددت بصوتٍ حنون مألوف لدي
-ألم تعرفيني حتى الآن.
ابتلعت ريقي بصعوبة، ولم أجد مفراً من الحديث معها، هي تجلس بثقة، كأنها فرداً من عائلتي، تنهدت بهدوء، ووضعت يداي على وجنتي يائسة
-لا لم أعرفك، ثم انتفضت من مكاني احملق في وجهها"
-ولكن انتظري صوتك مألوفاً لدي، وأشعر بحنان روحك من حولي.
حينها رنت قهقهات المرأة في جدران الغرفة، حتى كدت أتجمد من الخوف، ثم عادت لابتسامتها الهادئة، وأردفت في مكر
-لا عليك، ربما ليس من الضروري أن أخبرك  الآن من أنا، أهم من هذا كله، أنني مألوفة لديك. ثم منحتني قطعة من القماش الأبيض قد أحضرتها معها وقالت
-هيا أرتدي ذلك الزي، كي تذهبي معي من هنا، هذا المكان ليس مكانك عليك أن تحيي في مكانٍ يليق بك
حينها انفجرت ضحكاً، حتى أنها نظرت متعجبة، ثم تساءلت
-ما المضحك فيما أقول
حاولت تمالك نفسي، وأخذت من يدها الثوب، وأنا أقول
-لا شيء، لا شيء
ربما عليك ألا تعرفي لما أضحك حتى لا تودي بي إلى الجحيم، ترجلت ورائها في هدوء، كنت أتعجب لماذا أسمع كلام تلك المرأة، لكن لن أخسر شيء، وليس لدي ما أخاف لشأنه، سأمضي خلفها ربما يمنحني القدر مزيداً من المتعة تهون ما أعاني
غرفتي ترقد بآخر طابق في تلك البناية نزلت ورائها حتى وصلنا للدور الأرضي، رفعت عصا مذهبه وصوبتها إلى منتصف مدخل البناية، ظلت تردد بعض الكلمات لثلاث دقائق وقلبي يرتجف، حتى انفتحت فتحة دائرية كبيرة، لم تترك لي الوقت حتى اندهش مما رأيت فقط أمسكت بيدي وعبرنا سوياً ذلك الدرج الذي كان أسفل الفوهة
شعرت بجسدي يرتعش من الخوف لكنها تتحرك بثبات، أشعلت مصباحاً تحمله، لتنير الغرفة بنيران دافئة، أضفت عليها لوناً ذهبياً لامعاً.
التفت بوجهها نحوي، ورددت
-ربما عليك أن تتذكريني الآن، ربما أعود في أي لحظة
ثم تنهدت، صمتت لبرهة وأردفت
-لا عليك سأوفر عليك الأمر، وأخبركِ، اصطحبتني لأجلس على أحد الكراسي كان ناعماً مريحاً يلمع بتلك النقوش التي رسمت عليه
رفعت رأسها في شموخ وقالت
-أُدعي نانيس "حينها حملقت في دهشة"، نعم لا تندهشي هكذا، أنا جدتك لأمك وهنا كانت حياتي منذ آلاف السنين سمعت همس أنينك، فانخلع قلبي عليك صغيرتي، وأتيت لنذهب في جولة معاً، علها تهون على قلبك الصغير ما تمرين به.
دفعت رأسي للخلف وأنا أغمض عيني في ذهول، لا أدرك الأمر هل أسعد أن لي عائلة تحزن لحزني، أم أن هذا كابوساً سيودي بي إلى الهلاك، تساؤلات كثيرة ترتطم الآن بعقلي، هل أتت بعد أن عاتبتها، لم أقصد هذه المرأة، إنني أقصد جدتي لأمي، من أين لي بامرأة تعرفني منذ آلاف السنين
هي تنظر إلي وتترك لعقلي حق قبول الصدمة في هدوء، انتابتني بعض السكينة في حضرتها، فتننهدتُ بانتشاء وظل عقلي يردد، لتتركِ لنا وقتاً نحيا فيه دون أن نفكر ما علينا فعله، لتسعدي مرة في حياتك، ولو لبضع لحظات، حينها نهضت مسرعة، كنت أتمنى أن احتضنها ولكن ابتسمت في وجهها من بعيد، أكملنا حديثنا في امتنان، نتجول في تلك المقبرة التي تعج بالذهب والفضة
أمسكت بأحد التماثيل الذهبية، ونظرت في عينيها وأنا أردد
-ما فائدة ذلك الذهب يا جدتي، تركتم أحفادكم في فقرٍ مضجع، لتحيوا في مقابركم على بريق ثراءٍ فاحش، ليس هذا يا جدتي ما يضيء القبور.
نظرت إلي وكأنها كانت تتمنى أن تستمع لصوتي منذ زمن، ردت بهدوء
-يا نانيس لقد أردنا أن نحيا ملوكاً، ونموت ونحن لا نشعر بالجوع أبداً.
رددت في غضب، وأنا أشير إلى تلك النقوش التي تزين جدران المقبرة
-كيف؟، وقد تبادلتم الآلهة يا جدتي، آمون، أتون، وملوكٍ تُعبد، كيف تنتظرون أن ينير رب الكون قبوركم عند البعث.
ضحكت الجدة واتكأت على كرسي مرصع بالذهب الخالص يتخلله بعض النقوش وقالت
-هكذا يقول علينا أحفادنا، أننا كفرنا بالإله الواحد، تنظرون لما فعله فرعون بموسى، وهو ملك بين آلاف الملوك، كيف عاند وقال أنا ربكم الأعلى.
لماذا لا تقرأون عما فعله اخناتون، ودعوته للتوحيد، إله واحد فقط يعبد في أرجاء الكون، آمون وآتون ما هي إلا رموز التوحيد واختلاف اللغات عزيزتي
ليس لنا بهؤلاء الحمقى من الشعب الذين لا زالوا يعبدون ملوكهم، وإن كانوا في ظاهرهم يرى الناس أنهم مؤمنون
طأطأت رأسي في الأسفل، لم أقوى على مواجهتها بعد تلك الكلمات، فتقدمت نحوي محاولة أن تزيل عني الخجل، امسكت بيدي وفتحت تابوتاً من الجرانيت الأحمر كان على مقربةً مني.
-أنظري، لقد تركنا لكم ثروة عزيزتي.
نظرت في استهزاء، وبريق لمعتها يضوي في عيني
-عن أي ثروة تتحدثين يا جدتي، مجوهرات وذهب، يتعدى أثمانها ملايين الدولارات، دُفِنت مع أجدادنا حتى لا يشعروا بالفقر وهم موتى، ومن يحصل عليها، لقد سمحتم للحمقى واللصوص بسرقة ميراثنا، لم تتركوها لمن يستحق.
ردت بغضب وهي تدفع بغطاء التابوت
-لا تتفوهي بدون علم، لقد حميناها بطلاسم شديدة الصعوبة حتى لا يحصل عليها إلا من نريد، لكن ملوكم قد فرطوا في ميراثنا، الذي حيينا آلاف السنين  نكد حتى جمعناه، كي تعيشوا في خيراته، تركوا الآخرون يحتفون به في معارضٍ دولية لا يستحون بأنهم سرقوه.
ثم أكملت في استهزاء وهي تتحسس تلك النقوش لرجلٍ يمسك بآلة الزراعة
-كيف لكم أن تحافظوا على هذا وقد فرطتم في مهد حضارتنا، هنا حيث علمنا الناس الزراعة، كانت أرضنا تفيض بالخير ويأتي الجميع جوعى ليزدادوا كيل بعير
لقد افتقرتم يا بنيتي حينما فرطتم في خير أجدادكم
ثم توجهت إلى ذلك التمثال الذي يرقد في شموخ
-ولن تنالوا مجدنا، إلا أن تعودوا لعزتكم، وتعرفوا قدر أنفسكم، تعودوا لتستقبلوا الشمس في الصباح بأيدي سخية للعمل، وتستأنسوا قمر الليالي لراحة أبدانكم.
حينها فقط ستعودون.

🎉 لقد انتهيت من قراءة جدتي لا تكذب أبدا 🎉
جدتي لا تكذب أبدا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن