-الله أكبر
أنهي جعفر صلاته للعشاء مبكرًا وجلس على سريره يتأمل صورة بخياله لفتاته بينما زملاءه يبدأون صلاتهم جماعة
-انا اسف..اسف اني سيبتك عشان الحرب، اسف اني موفيتش بوعدي إني عمري ما هبعد، انتِ عارفه إنه غصب عني وشوفتي ده بنفسك!
قال جعفر ذلك داخل نفسه عندما شعر بعيونها فمخيلته تلومه، بينما تذكر الليلة المشؤمه عندما جاء رجال الشرطة لمنطقتهم و بدأو بالبحث عن كل من في العقد الثالث أو الرابع من عمره وليس متزوجًا ولا يهم إن كان له أخوة أم لا، كانت كل شروطهم أن يكون قادر فقط ليأخذوه معهم وكل ما قالوه هو أنهم سيؤدون واجبهم ثم يعودون بخير، لم يكن يعلم جعفر وجيرانه أنهم مقبلون علي اسوء فتراتهم إن لم تكن الأخيرة..
**********
-طب والله أحنا كنا محتاجين الحرب دي من زمان، تخيلي يا سعاد بعدها البلد هيبقي ليها مكانه إزاي لما ننتصر.. هنبقي مسيطرين علي الشرق.
-ياحج انت مش شايف بيصطادو الشباب من البلد عشان يحاربوا معاهم ازاي؟ أكيد في نقص أو عجز عندنا والوضع مش كويس
-اسكتي بس انتِ مش فاهمه حاجة، بكره تشوفي
جلست ونس بين والديها تستمع لهم بينما تنتقدهم بشدة وتحارب آلامها وتفكر كيف لهم الا ينزعجوا بما حدث الأيام الماضية سواء من خطف رجالهم الشبان إلي اعتقال كل من يقول كلمة اعتراض حتي بينه وبين نفسه، لو كان والدها لديه شاب مثلهم لما فكر بتلك الطريقة ابدًا ولكن للأسف لا يمتلك والدها ولدًا بل هي..لقد اخذوا منها ولدها وحبيبها و زوجها المستقبلي جعفر.
-هوني علي نفسك يا ونس، متقلقيش هيرجع أكيد جعفر قوي وهيتحمل عشانك وعشان أهله
-أحنا خلاص كنا مخطوبين يا فرح وهنتجوز خلاص، ليه يعملوا فينا كده عشان حرب مخترنهاش وملناش ذنب فيها.
-قدرنا يا ونس مفيش أسره فالمدينه هنا إلا ومتاخد منهم حد.
-قدرنا اننا نصحي مفزوعين؟ وستاتنا وامهاتنا بيصرخوا علي عيالهم اللي بيتاخدوا منهم عشان يموتوا؟ قدري إني أصحي مفزوعه وبعد محاولات عشان افهم في اى الاقيني ببص من الشباك وبتمني ميلاقوش جعفر وفجأه الاقيه بيشدوه من بيته بالقوة وبهدوم نومه عشان ياخدوه معاهم؟ اي قدر ده يا فرح اللي ياخد مننا روحنا ويخلي عيونا كلها مكسوره علي ولادنا واحبابنا؟!
نظرت فرح إلي الأرض ولم تعلق، فهي الأخري فقدت الكثير من أولاد اقاربها..المدينه بأكملها يمتلكها الألم.
************
-جعفر!
كان جعفر جالس القرفصاء و وجهه داخل كفه ويبكي داخله علي قدره الذي لا مفر منه عندما ناداه أحد زملاءه فزعًا
-في إيه؟!
-هات سلاحك وتعالا بسرعة في غارة
انتفض جعفر من مكانه والتقط سلاحه من جانبه وخرج من الخيمة راكضًا لا يعلم ماذا يفعل، يشعر إن بداخله طفل تائه يصرخ بأن يعيدوه إلي أمه ولكن هيهات!
بدأ الجنود في الركض وراء قادتهم ويستمعون للأوامر وينفذوها دون فهم، فهم هنا مجرد سلاح متحرك ليس له الحق في التفكير فقط الأنتماء والعمل، بدأ الجنود فالتراص وراء الحواجز والدروع وقلوبهم تنتفض خوفًا، ما أصعب أن تدافع عن رسالة -لا تؤمن بها- مجبرًا..
استعد الجنود ثم جاءت الإشارة ببدأ إطلاق نيرانهم، كان جعفر يطلق ضرباته دون توقف كقلبه، لا يلتفت لأصوات صراخ الجنود في بعضهم أو لأصوات ارتطام أجساد الجنود الصرعي بالأرض، ربما كان بهم أحب الأصدقاء لديه، وربما امتنع عقله عن فهم تلك الأصوات لظنه أن في ثباته ذلك الخلاص.
***********
-والله ما عارفه اقولك ايه يأم جعفر ده أنا موجوعه عليه كأنه ابني بالظبط مش خطيب بنتي خالص
-والله أنا اللي مش عارفه اقولك إيه علي وقف الحال اللي عملناه في بنتك ده
-هي واقفه علي كله والله علينا كلنا ربنا يجيب العواقب سليمه ويرجع بالسلامة يارب، مفيش اخبار عنه؟
-لا يا حبيبتي والله حتي فالأخبار بيقولوا اعداد بس مش أسماء
-يارب استر
كانت ونس تقف امام الشرفه شاردة واذنها تلتقط حديث والدتها ووالدة جعفر عله يطمأنها ولكنه يزيدها قلقًا علي حبيبها الذي سلب منها علي حين غرة دون أن تملك حتي توديعه، كل ما تمتلكه هو أن تدعو له وتنفض عن عقلها أحتماليه أن يكون من المصابين أو القتلي، فبقاءه سليمًا أخر أمل تتشبث به.
*********
أنتهت الغارة..ومع أخر طائرة سقطت للعدو، سقط ورائها جعفر علي الارض ملقي سلاحه جانبه، كان نائمًا علي ظهره وينظر إلي السماء، صدره يعلو ويهبط وقلبه يكاد يقفز إلي اقرب نجم أمامه، بعد دقائق بدأ فالبكاء بقوة، يصرخ ،وقف ليركض ويصرخ بصوت عالي ويخبط بقدماه فالأرض في عصبيه.
-ليه؟ لييه؟!
ظل يردد كلماته اثناء افعاله تلك بينما زملائه ينظرون له وهم يحاولون حمل اجساد المصابين والمقتولين منهم، هدأ جعفر ونظر إليهم، ثم أدرك انهم سقط منهم الكثير فأخذ يتحرك بينهم ليري كثير من زملائه الجنود الذين تعرف عليهم مؤخرًا وأخرون كانوا جيرانه وزملائه بالدراسة..بعضهم ملقي علي الأرض يحاول ألتقاط أنفاسه وأخرون غارقون في دمائهم لا يدري الناظر هل هم قتلي أم مصابين، ربنا لا تقدر التعرف علي وجوههم من الأساس..
فاق جعفر من شروده وبدأ في حمل زملائه وقلبه يكاد ينفجر غارق في الدماء كأجساد بعضهم.
*************
-بيقولوا الزعيم قرر يعمل معاهدة صلح؟
-بجد؟ ياريت يا بنتي والله يمكن يرجعوا العيال
-تفتكري يا ماما جعفر بخير؟
-ان شاء الله يبنتي سيبيها علي ربنا
-يارب يا ماما يعملوا معاهدة فعلًا بدل الخراب اللي حل علينا ده وواقف كل حاجة
************
-صب يا ابو جعفر العصير عشان المغرب قربت تأذن
-ماشي شهلي أنتِ بس فالفطار
جلست الأسرة لتتناول فطورها بأول يوم رمضان وقلوبهم منفطرة علي المقعد الخالي من دفء صاحبه الغائب، بدأو في شرب العصائر وهم يدعون الله أن يرد الأمانة التي استودعوها عنده ويرد كل الغائبين، وبدأو في تناول فطورهم عندما دق جرس الباب، تعجب الأبوين بينما هرولت أخت جعفر الصغري لتفتح الباب ظنًا منها أنه أحد أصدقائها أو اقاربهم.
-جعفر!
*************
-إيه صوت الزغاريد ده؟
قالت سعاد الجملة الأخيرة بينما ركضت ونس إلي الشرفة لتري ماذا يحدث وآذناها متعطشه لخبر سعيد لها يعوضها عن صيامها، كانت الزغاريد تأتي من بيوت كثيرة متفرقه لا تدري ايهم مصدرها، وبعد ما يقرب من عشر دقائق بدأت بعض البيوت في اصدار الصراخ والعويل فهدأت الأولي أحترامًا لحزنهم واكتفوا بتهليل قلوبهم وأعينهم.
ركضت ونس تجاه بيت جعفر وصدرها يعلو ويهبط خشية سماع أخبار تحرقها ولكن على كلٍ لن تحرقها أكثر من الإنتظار، فالأنتظار نار تأكل الأخضر واليابس بداخلنا!
دلفت إلي بيته و وجدته فارغ عكس توقعاتها، فقط اصوات تأتي من غرفه جعفر فخطت نحوها في تردد وخوف، ثم التقطت آذناها بعض الكلمات التي طمأنتها نوعًا ما:
-الحمد لله الحمد لله يارب، ردتلي أمانتك يارب الحمد لله
كان باب الغرفه مواربًا فدقته قبل أن تسمح لها أمه بالدخول ففتحته لتقع عينها علي جعفر نائم على سريره ويغط في نوم عميق ونصفه العلوي عاري ووجهه مصفر بعض الشيئ ولكنه سليم ومعافي..لم تكن قادرة على تصديق عينيها، عندما قامت والدته وضمتها إليها وهي تطمئنها عليه، جلست ونس بجانبه تملس على شعره، عندما لحق بها والديها فخرجوا جميعهم للخارج ليتركوه ليسترح وتعمدت ونس أن تكون أخر التاركين للغرفه كي تطبع قبلة على رأسه وتغلق الباب ورأها وهي تنظر له بفرحه عارمه لا تعلم ما ينتظرها من انتكاسات.
***********
مر على عودتي للبيت أربع أشهر و خمسة أيام، مازلت أذكر ذلك اليوم جيدًا كأنه منذ ساعات، عندما دخل إلينا الخيمة قائدنا وأمرنا بحزم كل شيئ يخصنا وأتجهنا جميعنا إلي عربات أخذتنا إلي وحدة الجيش التابعين لها ثم أخذوا منا هناك جميع أسلحتنا وأخبرونا أن الحرب أنتهت وقام الزعيم بمعاهدة صلح ولا أعلم لما تأخر بها هكذا، ثم ارتحلنا عربات أخرى إلي بداية مدينتنا ثم تركونا هناك ليذهب كلٍ منا إلي بيته، خرجنا من تلك المدينة ما يقرب من خمسمئة شاب لنعود حوالي ثلاثمئة فقط ويا للحسرة!
دلفت إلي منزلي، اعتنقت اسرتي ثم ذهبت إلي غرفتي وفرحتهم ورائي وخيبتي وخسارتي أمامي، ها أنا أخسر ناس أحبها وأيام من عمري وراحتي وطاقتي في قدر كتب عليّ...ثم خلدت للنوم، أتذكر يومها أنني شعرت بأحد يملس على شعري ويقبل جبهتي وعلمت بعد ذلك أنها ونس، أحب ونس لقلبي، ونسي التي قصصت ووصفت لها ما عشت به وما شعرت به وما اشعر به لتخبرني أنني أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة مما يجعلني أشعر دائمًا بالخوف وعدم ادراك العالم ونفسي وشعوري بالعجز وايضًا هو السبب في كوابيسي المزعجة والأنتفاض من النوم فزعًا، حاولت اقناعي بأن نعجل من زواجنا كي تكون بجانبي أكثر وأقنعتها أنني بالفعل لست جاهزًا الآن، إلي أن صمم والدي علي زواجنا سريعًا لأنهم بالحرب لا يأخدوا الأباء، كنت أعلم أنه يخشي غدر حكامنا فتزوجت لأرضيه واطمأن نفسي وربما ساعدني قربها علي تجاوز تلك الأزمة.
************
-ونس أنا بفكر اسافر
-تسافر؟!
-أيوه..أنا مش حاسس إني لاقي نفسي هنا، حاسس إني مش هعرف أعمل اي حاجه لينا أو لأولادنا هنا
كنت أعلم فى قراره نفسي أن تلك قرارات اضطرابات ما بعد الصدمة التي يعاني منها جعفر وكنت أعلم حسب قرأتي عنها أنها ستستمر علي الأقل ستة أشهر ولكنني تملكني الخوف من تنفيذ قراره.
-مش هيكون لينا قيمة فأي حته غير بلادنا يا جعفر، أنت بس عشان لسه متأثر باللي حصل، لكن مع الوقت هتنساه وهترجع قوتك من تاني، كفاية انك رجعت من هناك سليم، ده اللي حكتهولي عن التدريبات والغارات اللي شاركت فيها خلاني اشوفك أقوي حد فالعالم
-أنا عارف، بس أنا محتاج اسافر..لوحدي!
رأيت في عينه الأصرار وكأنه أتخذ قراره من مدة فصمت عله يرجع به كما أخذه ولكنه لم يرجع.
************
بعد مرور ستة أشهر من العودة:
-متتأخرش عليا يا جعفر
-حاضر
أحتضنته ثم قبل رأسها و أكمل توديع أهله وأنطلق إلي القارب الذي سيبحر بهم إلي السفينة الكبيرة التي ستأخذهم إلي بلد لا يعرف بها سوى اسمها وعُملتها ولغتها..كانت تقف ونس علي رصيف الميناء تراقب ابتعاد القارب وداخلها يتمنى أن يلتف القارب ويعود راكبه لها مجددًا.
بدأ القارب يتحرك بجعفر الذي لم يكن ينظر وراءه بل ينظر أمامه إلي البحر الواسع الذي يوحي للناظر أنه ليس له نهاية، وأمامة السفينة التي ستبحر بهم، بعد دقائق ألتفت خلفه، وجد أن القارب أبتعد ما يقرب من ثلاثون متر من الميناء، ولا يعلم لماذا أنتفض وشعر بالخوف والرهبة الشديدان وكان شعوره بالفقدان أكبرهم وكأنه لم يدرك أنه سيسافر ويترك بلده إلا فى تلك اللحظة، لم يدر بنفسة إلا وهو يأخذ امتعته و يقفز بالمياه ليسبح نحوه وطنه مجددًا، كان عقله به عواصف من الأفكار بينما يقول في نفسه:
-أنا دافعت عن بلدي حتي لو حكامها السبب في الخطر اللي جالها، أنا مقدرش أسيبها مليش قيمة بعيد مليش قيمة من غير اهلي..مليش قيمة من غير ونس، مليش قيمة برا الأرض دي حتي لو تحتها جثث صحابي!
ظل يضرب المياة بيده وقدمه وعلي ظهره امتعته، ظلت ونس تصرخ به أن يعود للقارب خشية أن يغرق ولكن ما أن أقترب أكثر حتي لم تقدر علي الأنتظار فقفزت وأخذت تسبح ناحيته إلي أن وصلت له وأحتضنته!
-نطيت ليه؟!
-عشان مليش قيمة من غيرك.
#ونس
YOU ARE READING
الحب تحت الحصار
Short Storyعادة ما يكون للقدر رأي أخر فأما أن يهزم محاربيه أو يزيد قوتهم، فهل سينتصر؟ تدور الأحداث حول اثنان كاد الحلال أن يجمعها لولا تدخل القدر، فهل سينجحون في أكمال طريقهم؟ وهل سيتركهم القدر بعد الجولة الأولي أم سيستمر في معاندتهم؟! #ونس