وحيد أنا كرجل يرى في عنكبوت يبني بيته في زاوية غرفته المتربة صديقا له؛ هذا ما فكر به كنان وهو يطالع كوبو ذلك الكائن المفصلي ليضيف له عقله منبها: أنت فعلا ذلك الشخص، حتى أنك أطلقت عليه اسما!
نظر نحو تلك الزاوية التي باتت شغله الشاغل في الآونة الأخيرة ينظر إليها بلا ملل وهو يحمل في يده كوب قهوته الذي فقد دفئه، يتجرعه بمرارته لا يشعر بطعمه وهو يسيل على لسانه، تلك المرارة التي تسكن حلقه فقط هي ما تجعله يزدرد لعابه، يهمس بتحية الصباح: صباح الخير كوبو، أما زلت بانتظار رينيه؟ أما زلت تنسج لها من خيوطك بيتا تزينه بتلك الحشرات الصغيرة علها تحنو عليك؟ لماذا تفعل ذلك بنفسك يا صديقي ألا تخشاها وأنت تعرف أن زيارتها لك ستحمل نهايتك معها وستكون أنت وجبتها الشهية؟ أجل مهما جمعت لها ستظل أنت المفضل لديها، لا تنظر لي هكذا أعرف أنك تعرف ما أقوله لك ولكنك ما زلت تعمل بكد لأجلها فأنت لا تستيطع مقاومة سحرها أليس كذلك؟ ولا أنا أيضا! رغم كل ما يدور حولي لا أستطيع التوقف عن البحث عن تضحيات واستمر بنسج أكفان لبقايا قلبي الهرمة لأقدمها للحياة علها تهديني لحظة سعيدة قبل موتي، تشعرني أنني سأترك أثرا ولو كان على شكل ذرية سيموتون يوما، حسنا.. حسنا لن أشغلك أكثر من ذلك سأذهب للبحث عن شيء أفعله.
نهض عن سريره متثاقلا متجها نحو دورة المياه يطالع وجهه الخمسيني رغم أنه لم يتعد الثلاثين عاما ولكن الهموم حفرت في وجهه أخاديدا وغطت ملامحه بعتمة لا يراها سواه، مد يده نحو شفرة الحلاقة الوحيدة بصدئها الذي بدأ يغزوها ليحلق لحيته وهو يفكر معاتبا نفسه؛ كم مرة أخبرتك أن عليك شراء آلة حلاقة جديدة بدل هذه التي تترك علامات ملتهبة في كل مرة تمدها نحو وجهك الخرب؟
أنهى حلاقته وارتدى ثيابا تليق بالخروج في موعد غرامي وهم بالخروج من بيته، ليأتيه صوت صافرة الإنذار معلنا بداية الحظر فيوقظه من غفلته، ليهمس مخاطبا نفسه وهو يخبط على جبينه بكفه: كيف نسيت أنك في زمن الكورونا؟ لقد فوت على نفسك ساعات الحرية القليلة التي كنت ستحظى بها.
- عن أي حرية تتحدث؟؟ أنسيت؟ فلا أحد حقا مهتم بكونك موجودا في هذا العالم، وإن خرجت إلى أين ستذهب؟ أستسير كعادتك في الشوارع بلا هدى ثم تعود جارا ذيول خيبتك إلى وحدتك التي اخترتها بنفسك حينما قررت أن تتوقف عن السماح لهم بالتحكم في حياتك؟
- ولكنني سئمتها حقا!
- أليست أفضل من حياة يصبح كل همك فيها أن تلبي رغبات هذا وترضي ذاك وفي غمار ذلك تنسى أن تعيش لنفسك، فيمر الوقت دون أن تحقق شيئا، فتكرههم وتكره نفسك ورغم ذلك لا تستطيع الفكاك من براثن خضوعك لهم؟ هل نسيت كم تعبت حتى تتمكن من الإفلات من تلك الحلقة المفرغة التي كنت تدور بداخلها؟
- لا لم ولن أنسى، ولكنني سئمت من الحديث مع كوبو، نظر سريعا نحو كوبو نظرة معتذرةوهو يقول: لا تظن أنني أهينك صديقي، ولكن كوبو بدا منشغلا بنسج كفنا لذبابة لا تزال ترف بجناحها بضعف.
- حسنا كل ما عليك هو أن تحب نفسك أكثر وتتوقف عن التعلق بكل شخص يلقي لك بفتات اهتمام تظنه حبا، ركز على شيء آخر فالحب ليس مكتوبا لك وإن كتب فلا أحد سيحب ضعفك هذا.
- حسنا.. حسنا سأحاول.
- لا لن تحاول فقط بل ستفعل، ولتتوقف عن مخاطبة ذلك العنكبوت الغبي فهو لا يلقي لك بالا ولا يفقه شيئا مما تقوله له، وحتى أنه لا يعبأ بك ويستمر بمد سيطرته على مساحة أكبر من سقفك كل مرة دون أن يهتم بما ستفعله، فحتى هو يعرف أنك أضعف من أن تتجرأ على هدم بيته، فلتبدأ من الغد إذا، سأغفو الآن لقد تعبت من مناقشتك.
- أي غد تقصد نحن ما زلنا في زمن الوباء، فلتؤجل أحلامك التي لن تتحقق إلى ما بعد انتهاءها.
- إلى متى ستظل سلبيا؟ هكذا متى ستتخذ خطوة أم أنك ستعتبر موتك انتصارا؟!
- على الأقل سأكون قد ارتحت من كل هذرك الذي لا يتوقف.
- أوتظن في الموت راحة؟ أوتظن حقا أن الله لن يحاسبك على عمرك الذي تفنيه لأجل لا شيء؟ فلتنهض وتنثر غبار الكسل عن روحك الهرمة وتعيد لها ألقها ولا تنتظر من أحد أن يمد يد العون لك، حينها فقط ستبدأ حياتك الحقيقية، أقصد حياتك الوحيدة فلا فرصة في حياة ثانية.
- حسنا فلتوقظني حينما ينتهي الوباء؛ قالها وهو يضع رأسه المنهك على وسادته المضمخة برائحة الفشل ولكن هذه المرة لم يتنشقها، ولم تخدر حواسه وتميت روحه.. هذه المرة رفض أن يترك لها المتبقي من روحه لتنهشها ورغما عنها بدأ بغرس بذور الأمل في درب أحلامه.
.....
تنبه كنان على اهتزاز طفيف يتحول الى دوران بشكل مغزلي يعصف بذهنه، ودفء يتسرب إلى جسده، فكر وفكر ولكنه لم يستطع التوصل هل هو في حلم أم واقع!
فتح عينيه لتصدمه هوة سوداء لامعة تطالعه بسخرية، وقدمين إبريتين غليظتين تمسكان به وتنسجان حوله شرنقة من خيوطها اللامعة، ثم سمع صوتا غريبا يقول له: أوظننت حقا أنني لن أتوصل يوما للهدية المناسبة لعزيزتي رينيه لكي تعفو عني؟ بجميع الأحوال فلا أحد يهتم إن بقيت حيا أم لا، أما أنا فسيكون لي ذرية علي تعليمها كيفية اختيار الهدايا للحفاظ على حياة زوجية أبدية.
أجل لا تنظر إلي هكذا أنا كوبو الذي ظننته غبيا لأنه يغزل هداياه لمحبوبته، أنا كنت أختبر خيوطي وكم سأحتاج منها لكي أغزل لك شرنقة مناسبة، لا تقلق لن أنسى تزيينها بشكل لائق بعشقي الأبدي.
لم يكد يعي الوضع الذي أوقع نفسه به حينما ترك ذلك العنكبوت يراقب حياته البائسة ويستمع لهذره اللامتناهي عن مدى عدم أهميته بالنسبة للكون -لا بد أنه سئم حقا من سماعه لصوته الكئيب وقصصه الحزينة التي لا تنتهي- حتى وجدها تتبختر على ذلك الجسر الذي صنعه لها كوبو وزينه بشرانق الحشرات لتكون كمقبلات تبدأ بها وجبتها، بين فينة وأخرى كانت تمد يدا نحو إحداها تشقها وتبتلع ما بها بتلذذ ثم تلعق طرف يدها حتى وصلته، تلاقت الأرجل المفصلية معا وحفيفها يدق سمع كنان مقتربا وهو يقول لها: هلا تزوجتني رينيه؟
تلمظت بشفاهها وقالت: حالما أتذوقه سأخبرك بقراري.
......
طرقات تعلو وتعلو تدق سمعه وعرق غزير يتقاطر من جسده المحبوس داخل شرنقة برائحة الموت يتبعها سقوط مدو ليرتطم أرضا ساقطا عن سريره، هرع نحو الباب ليجد الشمس قد سطعت معلنة بداية يوم جديد، ويد تمتد عبر الباب المفتوح لتجذبه من قميصه المبلل....#كوبو
#بداية_جديدة
#جهاد_جودة
