1

252 12 5
                                    

لم يتغير شئ بعده؛ بات يعيش واقعه وآلامه في صمت، والليل أسوء مايواجهه تارة الأرق وتارة الكوابيس تسلب راحته وتمنعه من النوم
صحته تتأرجح مابين التداعي والتعافي تشحنه ببعض الطاقة والمشاعر حتى تعذبه بسلبها لاحقا
كان عليه التعايش مع هذا إنها حياته في الأخير لا يستطيع سوا مواجهتها، وأي مواجهة هي هذه، لا يفعل شيئا يسمح للأيام والعمر أن يضيع دون تغير يذكر، الأيام تعيد نفسها مرارا وتكرارا، بات كل شي مكرر وباهت حتى آلامه، ماعاد يعرف ماكان يحبه وماكان يفضله ماعاد شيئا يفرق أيامه ويضفي عليها طعما
يكاد يتقيئ طعامه ولكنه مضطر لأكله لا يزال فاقد شهيته يشعر بالغثيان بمجرد أن يشتم رائحة الأكل فورا يفكر أنه غير قادر على أن يستطعمه
كل شئ، كل شئ يرهقه حتى التنفس يجعله يشعر بالإختناق فقط إلى أي درجة وصل ؟ إلى متى ؟ لماذا؟ كل هذه الأسئلة تملئ رأسه وتطرق جدران دماغه تسلب تركيزه، صحته تتدهور وزادت حبات الأدوية التي يجب أن يتناولها حتى ماعاد يعلم كيف يبتلعها يشعر بها مثل الغصة تتكوم في حنجرته كأنه يبتلع أشواكا حديدية
الشتاء وبرده والخريف وعواصفه فصل بعد فصل تطوي السنين طيا وسؤال واحد لطالما تهرب من مواجهته : لماذا؟ لماذا يستمر إن كان كل شئ يعذبه؟ هناك في داخله عميقا يعلم الجواب لكنه يخدع نفسه بتجاهله
إنه لا يزال يريد الاعتذار لازال يريد منه أن يسامحه أن يرجع إليه وأن يعود كل شئ كما كان لكنه خائف من أن يفسد الأمر ثانية كما أفسد قبلا عشرا يعلم أنه جبان لتهربه من مشاكله لكنه فقد الأمل وتعب من كل مرة يحاول فيها إصلاح الأمور فتتهاوى أعظم لا يريد أن يكون ذنبه ثانية في جعل أحدهم ينكسر ويتألم لقد ضاق ذرعا بما حصل
كل مايدفعه للعيش الآن هو عذره لما حصل، الخيط الفاصل بينه وبين إنهاء حياته وألمه هو أنه لا يزال يطمع برضى الآخر لازال يعتقد أنه باعتذاره سيستعيد ماخسره سيستعيد روح صديقه.
فقط فورا أن يرى ابتسامة الرضا والمسامحة من الآخر سيستعيد راحته وسينهي حياته بقلب حبور وسعيد؛ نعم سينهي حياته لأنه سيغدو سعيدا وسيحصل على ما يطمح إليه لكنه لن يتخذ الخطوة الأولى أبدا لا زال خائفا ومرتعبا ولازال ينتظر الآخر يعود بحثا عنه إليه حتى وهو يعلم يقينا أن الآخر لن يفعل هذا أبدا.
لديه تبريره لكن ليس لديه القوة للرجوع إليه لا يريد أن يعود معتذرا فتقفل في وجهه الأبواب يفضل أن يبقى في العراء حتى يلتقيه يشفي منه تفسيرا
لم يتألم حينما سقط إثر لكمته ولم يتألم عندما ضربت خاصرته وجنبه بالرخام وجرح، فقد الإحساس قبله بثواني؛ حينما رأى الخذلان في عيني صاحبه، مالذي اقترفته يداه هذه المرة ؟ لما كل مرة يظن بها أنه أصلح الأمر ينهار العالم عليه ويضيق الكون بوسعه عليه تألم فقط حينما أدار صاحبه ظهره إليه ورحل صافقا الباب بقوة، تهاوى واقعه وعالمه لحظتها أراد الصراخ لكنه فقد صوته أراد اللحاق به لكن ماعادت قدماه تتحملانه أراد فعل شئ لكن كل ماستطاع فعله هو البكاء، كان خائفا حقا، مرتعبا جدا شعر كأنه طفل صغير ضاع بالغابة التي حكت عنه أمه بأنه موطن الوحوش شعر بأنه صغير جدا وضائع وتائه مثل ذرة غبار تطفو دون هدى دون وجهة لا تعلم ما الغرض منها لم يستطع النوم ليلتها وبدأت منه سلسلة كوابيسه، بات يلازمه الأرق حتى نسى معنى النوم أراد أحدا أن يحتضنه ويغني به حتى ينام لكن حين التفت لم يجد أحدا بجانبه أو حتى قريبا منه، لطالما كان وحيدا، وحيدا جدا وقد غادره الآن ماكان يجعل كلمة الوحيد لا تقربه غادره أمانه غادره سكينته غادره رفيقه غادره روحه وأسوء من ذلك أنه ارتكب خطأ عظيما وكسر بداخل صديقه ماكان يجاهد طوال الأيام الماضية في بناءه كل ذلك انهار في لحظة بسببه
بكى بحرقة يناجى ربه، رباه ساعدني شعر بأن السماء تتكئ عليه شعر بثقل مهول شعر بضلوعه تكتم قلبه بكى وصرخ حتى شعر بحنجرته تدمي سعل دما ورجع يبكي ألما شعر برغبة بأن يكون رضيعا بيد أم أراد بشدة أن يشعر بالأمان أراد الراحة من هذه الآلام وربما تحققت أمنيته حيث فقد وعيه من الإعياء يوما أو بعضه حتى عثر عليه صاحب المنزل يسئله الأجر، فحمله إلى المستشفى حظي أخيرا بنوم كاف حين خدروه بمسكن، لم يعلم كم بات في سباته ولم يرد أن يعلم أتاه الطبيب يخبره عن حاله وما أراد منه ذلك يدرك بالفعل ماعلته
هزيل جدا شاحب ومتعب بل متعب جدا منطفئ كما السماء حال الإعصار يبدو كتمثال عتيق صدئ في متحف مهجور جماله وروعته، الزهرة التي كانت من المفترض أن تتفتح لم تذبل فقط بل تهاوت ماعاد ساقها صلبا أنى لهذا التعب أن يهاجمه في ريعان شبابه لم يكد يكمل ثلاث وعشرون ربيعا بائسا، بدا لوحة تجسد الإنهاك
بدا حكاية تروي أسطورة مأساوية بدا مرهقا جدا لكن جميلا أيضا بدا كأساطير الرعب حيث الجمال والخوف يمتزجان معا بدا مشمئزا لكثرة مانعكست دواخله على محياه، رائحة الحزن المقيتة تفوح منه تنفر من حوله.
لم يعد يستشعر شيئا وفي الآن ذاته يشعر بألم مهول وعظيم.
كيف الخلاص ومتى الخلاص، الأسئلة تحاصر ماتبقى من وعيه تجعله يشعر بنفسه على منصة الإعدام تارة يتمنى أن تنزل المقلصة وفي اللحظة ذاتها يهاب الموت حتى ينخز الرعب أوصاله
اقشعر بدنه وارتجف
الثلج يهبط بغزارة في الخارج يمكنه رؤية ذلك عبر النافذة استقام من مضجعه واتجه الى خزانته الخشبية فتحها ونظر إليها في سكون للحظات قبل أن يدلف داخلها يتخذ مجلسا على أقمصة صوفية مبعثرة أغلق باب الخزانة على نفسه، ثيابه تتدلى فوق رأسه وخط ذهبي من نور الشمس يلمع عبر الفراغ الطويل في باب الخزانة شعر بالدفئ قليلا ربما إن جلس في مكان ضيق ربما إن تقلصت المساحة حوله حينها لن يشعر بأنه محتاج لأحد بجانبه لن يشعر بأنه وحيد للغاية لن يعي نفسه وقد غفى هناك، حين رمشت عينه مستيقظا كان اللون الذهبي بالداخل تحول إلى أحمر قان يبدو أن الشمس على وشك المغيب لم يتحرك من محله ونظر أمامه حتى كاد يصنع ثقبا عبر لوح الخشب
داهمه الصداع بسبب معدته الفارغة وبمجرد تفكيره بأنه مضطر لوضع شي في فمه ومضغه داهمه غثيان وكاد يتقيئ معدته الفارغة منذ البارحة أو قبلها
لم يرد الخروج من الخزانة أراد أن يبقى في وهمه حيث أقنع نفسه أنه يشعر بالدفئ هنا متجاهلا حقيقة أنه لا زال يرتجف بردا سحب المعطف البني من الأعلى فسقط المعطف على جسده رفعه حتى غطى به رأسه وأعاد غلق عينيه يبتغي النوم.
مشاعره وكل إحساسه أفكاره وجل وعيه كل هذا بدا وكأنه في سيطرة أحد غيره لم يعد يعرف نفسه
يجهل شخصه تماما لا يعلم الآن من هو
بدا مثل كيان غلفه الظلام ليتركه يتخبط تائها
صبر كما فعل قبلا لكن كل هذا الألم ينهش دواخله كيف له أن يستكين ؟
ثار بنفسه سؤال أربكه لحظة من الزمان
هل سيتخلص من هذا ؟
من سيخلصه ؟
كيف سيبدو الأمر بعده ؟
هل سيحدث أصلا؟
كيف هو شعور العيش بدون هذا الألم والعذاب؟
لقد عذب حتى ماعاد يذكر أياما عاشها سعيدا
بدا سرابا في ذكريات ماضيه
كيف هو الطعم والشعور والإحساس والرائحة
حين سيكون حرا من كل ما يأسره الآن؟
حين فكر في الأمر وجد في نفسه رغبة لمعرفة الأجوبة وحنينا إلى ما تناساه من الماضي أراد الآن أن يولد من جديد ويشعر بكل جميل وآمن
لا يقرب لما يعيشه من قبح ألمه ورعب خواطره شيئا
فقط رغبة ضئيلة فضول صغير
عليه أن يسارع في الحفاظ عليه قبل أن ينجلي كأنه لم يكن شيئا وتعود لتسيطر عليه أفكاره السامة من جديد.
آلمته رقبته من الجلوس منحشرا بالخزانة لكنه لم يبغي حراكا نظر من الفراغ الموجود بالمنتصف وقابله القمر مبتسما أمامه من خلف النافذة
بدا كئيبا وهو يرمي بنوره وسط الظلام يظهر تارة ويختفي تارة أخرى خلف السحب الداكنة
رأى دخانا وضبابا يلمع بفعل القمر إنهم على مشارف الشتاء وكاد الخريف أن ينتهي
ربما ستثلج اليوم ؟ فالبرد قارس بالخارج
خرج من الخزانة أخيرا يقترب من نافذته لم يشعر بذاته يخرج بدا كأن القمر أو الضباب بالخارج هو مايجذبه، خطا مستسلما إلى النافذة يحدق بالقمر صامتا استطاع رؤية انعكاسه على الزجاج أمامه
من هذا؟
أليس هذا أنا؟
هل هو حقا أنا ؟
أمعن النظر في الصورة التي انعكست أمامه حدق في عينيه الغائرتين مامن روح فيها ولا حياة
هبط بنظره أسفلا
عظام خديه برزت للخارج كثيرا
شفتيه جافتان متقرحتان من جوانبه مطبقتان على بعضها
متى تحدث آخر مرة؟
متى سمع صوت نفسه آخر مرة ؟
لم يعلم لكنه يعلم أنه سيواجه مشكلة الآن في تناول طعامه بما أن شفتيه متقرحتان
يا للسخرية وكأن تنقصه المشاكل أثناء تناول الطعام
وبذكر الطعام عاد إليه الإعياء مجددا ودار عالمه في رأسه وتضبضبت رؤيته حين استوعب كم كان جائعا
حارب نفسه كي لا يلتفت و يتجه إلى سريره
لن يفيده الأمر على كل حال هو لا يستطيع النوم سواءا كان جائعا أم غيره
نزل متجها إلى ما يسميه مطبخا وهو أهلك من أن يسمى بذلك
لم جاء هنا وهو يعلم أنه لا يوجد شئ في ثلاجته وبالتفكير في هذا أدرك أن عبوات المياه المعدنية قاربت على الانتهاء أيضا
ياله من عذاب سيضطر للخروج من بين الأربع حوائط هذه
وعليه المشي مسافة والولوج إلى مكان ما
ومضطر لرؤية الأشخاص في سبيله إلى هناك
يمقت رؤية الآخرين يجعله ذلك يشعر بشعور ملسع كيف هو موجود حتى بعالمهم يجب عليه أن يكون في الجحيم وليس على نفس أرض البشر
يشعر بذاته حقيرا ومذنبا لا يستحق العيش معهم.
خرج مجبرا على ذلك واتجه إلى محل قريب
لم يكن يريد أن يتناول شيئا جاهزا ولم يكن يريد أن يطبخ أيضا في الحقيقة لم يشعر برغبة في تناول شئ لكنه إنسان وهو بحاجة إلى الطعام شاء أم أبى
هاهو ذا ابتاع الطعام وأعده وجهزه على المائدة ولا زال يحدق إليه منذ ساعة أو أكثر، لقد برد وتلاشت رائحته الزكية التي أصابته بالغثيان
ورغم جوعه الشديد لا يقوى على أن يتذوقه أو يأكله لأنه يعلم أنه سيستفرغه وذلك الأمر يستنفذ جل طاقته المتبقية
أغمض عينيه بشدة وأمسك بالملعقة بالقوة كأنه سينزل ليتصارع بها مع أحد وغرفها من ما صنعه
وها هي ذي تتوقف عند فمه
تجمد فجأة، شفتيه لا تفترقان
لايريد أن يأكل ،
لكنك مضطر عزيزي
هاهو ذا يبتلع لقمته، تماسك قليلا إنها الأولى تماسك
انتهى أخيرا بعد جهد مضني؛ نعم هذا يومه أبسط الأشياء تسلب طاقته، يجاهد لمضغ الطعام وإبقائه في أمعائه ويجاهد نفسه مع شعوره بالغثيان وأن لا يتقيأ
وعندما ينتهي من ذاك يقاتل من أجل دقائق من النوم؛ الليل أسوأ ما يواجهه لا يستطيع النوم مهما تقلب يمنة ويسرة، رفع التكيف أو اخفضه، سحب اللحاف إلى وجهه ورماه بعد ثواني من ذلك، رأسه كأنه يطرق بالحديد، عيناه تؤلمانه إن نظر هنا أو هنا، محمرة تطالبه بالنوم؛ لكن هذا الأمر ليس بيده لا يستطيع النوم مهما حاول؛ وجزءا صغيرا في داخله تمنى الليالي التي كان يستطيع فيها النوم أن تعود
حتى إن كانت الكوابيس والأحلام فيها تلحقه حتى تجعله يستيقظ فزعا مرتعبا مسلوب الأنفاس يبكي ويجاهد من أجل الهواء
لكن كان يستطيع على أقله النوم.
لم لا يتناول حبوبا منومة؟ لا يعلم ربما عليه حقا أن يبتاعها
لكن فكرة الذهاب إلى طبيب يشخصه ويعطيه الإذن باستخدام تلك الحبوب ومن ثم الذهاب إلى صيدلية والشراء منها كل هذه الأمور منهكة، منهكة جدا؛ إن أراد تلك الحبوب فعليه تخزين طاقة لأجل ذلك وهذا الأمر ربما يتطلب منه أيام وأشهر والكثير من الشجاعة التي لا يمتلكها
لم رأسه يفكر بكل هذه الأمور؟ لماذا يفكر هكذا كثيرا؟ يشعر أن دماغه على وشك الانفجار حقا من كمية الهراء المبالغة الذي يفكر بها.
مالذي حدث؟ لا يريد حتى أن يستذكر ما حدث إنه يؤلمه الذكريات أصبحت وحشا ينهش دواخله يقتات على قلبه وعقله وروحه.
لم يقصد مافعله ولا يعلم إن كان بسببه فعلا أم لا لايريد أن يعرف، سيكون المخطئ بالطبع كل هذا خطأه ماكان عليه أن يخطو بحياة صاحبه كان عليه أن يذهب بعيدا دام يعلم أنه يفسد كل شئ أن وجوده سيؤذي الآخرين حتى إن لم يقصد
دوما الأمر يصبح أسوء بسببه لذا كان عليه التراجع والهرب بعيدا، كيف تجرأ وفكر بأنه من ممكن للأمور أن تصبح أفضل؟ كيف تجرأ على الاعتقاد بأنه سيصلح الأمر؟
لا يعلم إلى الآن مالذي حدث ومالذي رآه صاحبه منه، ماخطيئته؟ لكنه لا يحتاج لأن يعلم لأنه هو الخطأ بذاته؛ نعم ما كان عليه التواجد في هذه الدنيا لو لم يكن موجودا لما تأذى كل هؤلاء الناس قبلا وصاحبه بعده، اشمئز من نفسه وذاته وماكان عليه وما أصبحه يود لو أنه كان لاشئ لو أنه لم يولد لو أنه كان عدما.
ومضت ذكرى ذلك اليوم في رأسه مجددا داهمه الصداع وأصبح تنفسه أثقل يشعر بأحد يكتمه ظل يصرخ ويتحرك في مكانه يشد شعره، عيونه متجحظة تكاد تسقط من محجريها؛ كان مرعوبا هلعا ولم يعلم كيف يهدأ، كان يتعذب ومامن سبيل للخلاص .

الخلاصحيث تعيش القصص. اكتشف الآن