البداية و النهاية

148 26 31
                                    

تماوجت صفحة المياه و اضطربت بفعل النسائم الخفيفة، و تساقطت وريقات من شجرة الدردار في الضفة القريبة ثم سقطت على وجه النهر كمراكب صغيرة أحدثت دوائر سرعان ما تلاشت.
كنت جالساً في مركبي الصغير المتين الذي صنعته بمساعدة الجدة فاسلينا من خشب الغابة المتاخمة للقرية، كان متيناً منيعاً ضد تسرب المياه و كثيراً ما رافقني كصديق حميم في عملي اليومي كعبّار بين الضفتين بمبلغ لا بأس به.

عقدت أنشوطة الحبل و ربطت القارب مع المرسى الصغير في المرفأ، و اتكأت بمرفقي نصف مغمغض العينين مسترخياً لحركة الأمواج التي دغدغت قاربي و هدهدته كالمهد، كنت قد كدت أغفو حين شعرت بخبطة قوية على رأسي.

" أيها البغل! افتح عينيك إنني على عجلة من أمري للحاق بموعد مهم!"

ضيقت عيني و حدجت الرجل البدين الأسمر الذي ارتدى جلباباً فضفاضاً بلون أزرق ياقوتيّ و وضع قبعته المشابهة فوق رأسه الأصلع، حاملا بين يديه عصا غليظة من خشب الصنوبر زينت قمتها جوهرة حقيقية.
" السيد فيليكس، طاب صباحك"

فركت رأسي حيث تلقيت الضربة، و تنحين ثم سحبت الحبل ليلتصق القارب بالحاجز الخشبي حيث وقف ابن العمدة الموقر، الذي لا أستطيع إخباره كم هو بدين و بغيض لكي لا يقطع جلادو أبيه عنقي.

رفع فيليكس جلبابه الثمين الذي كانت ثيابي الصوفية التي تفوح منها رائحة الخراف كالأسمال مقارنة به، ثم اقترب ليصعد على القارب بخطوتين. تمايل زورقي و اضطرب حتى حسبته سينقلب بنا، ثم هدأ و سكن.

استوى ابن العمدة جالساً ثم بحث في جيبه و أخرج كيس ماله. رمى نحوي ثلاث قطع برونزية تعمّد أن يسقط إحداها في الماء. التقطت القطعتين على مضض و حملت المجدافين راغباً بقطع النهر بأسرع ما يمكن.
جدفت بهدوء و سرعة عبر المسار المعروف في نهر ستيكس. كانت المياه ساكنة و عكس سطح المياه خضرة طفيفة بسبب الطحالب، و النباتات التي  سكنت قاع النهر و امتدت سيقانها المفلحطة نحو السطح.
استمعت لصوت الطبيعة الحالم، و لتغريد طير مالك الحزين الذي حط على قطعة خشب طافية.

شعرت بعينين ظلتا تحدقان نحوي طول الطريق، و لاحظت فيليكس الذي استمر في تحريك خاتمه الذهبي في بنصره، ثم سألني بجفاف:
" ماذا أنت أخرس هكذا؟ أليس في جعبتك بعض الأحاديث الممتعة؟"

هززت رأسي نافياً، و زفر ثم أضاف مغمغماً:
" قريباً جداً سأرحل من هذه القرية البائسة و سكانها الأغبياء. سوف أذهب اليوم لمقابلة ابنة زعيم القرية المجاورة، و هي فتاة صغيرة تعشق الهدايا التي أحضرها لها. أتمنى أن يموت والدها العجوز قريباً...
فيم تحدّق؟ انظر في طريقك!"

حولت بصري منه نحو النهر، ليشير بإصبعه نحو القناة الضيقة التي كستها الأعشاب الطويلة و أمر:
" خذ ذلك الإتجاه! إنه الطريق الأقرب لليابسة! "

توقفت عن التجديف ليبحلق نحوي بسخط، و امتدت يدي لا تلقائياً لتقبض على التميمة حول عنقي.

" حفظنا القدير... ألا تعلم يا سيدي أن تلك البقعة مشؤومة؟ من يذهب لهناك لا يعود مجدداً، و كل قارب يبحر في تلك الجهة تسحبه دزي وو زونا نحو القاع"

أطلق فيليكس ضحكة مجلجلة و كأنني ألقيت نكتة، ثم قال ساخراً:
" هل أنت رضيع لتؤمن بحكايا الجدات القديمة التي يخفن بها الأطفال للذهاب للنوم باكراً؟ إنها محض خرافات! هيا حرك يديك عديمتي الفائدة و امض! إنني مستعجل! "

ترددت و نظرت نحو البقعة المشؤومة مجدداً، ثم رضخت لابن العمدة و جدفت بحذر نحو القناة الضيقة.
إنه وضح النهار، آمل أن دزي وو زونا لا تزال نائمة.

أبحر الزورق ببطء في جنبات المياه الخضراء التي ازدادت كثافة الأعشاب في قاعها، لاحظت انعدام الطيور المحلقة في تلك البقعة، زدت من سرعة تجديفي و أنا آمل أن تحميني تميمة جدتي من الشرور. كان فيليكس مسترخياً و أخرج من بين طيات ثيابه عقداً ذهبياً لامعاً خمنت أنه هدية لعشيقته في الجهة الأخرى. حاولت أن أهديء من روعي و استمتع قليلا باكتشاف المنطقة التي يتحدث عنها الجميع و لم يرها أحد.

شعرت فجأة بشيء خبط زورقي من الأسفل.

توقفت عن التجديف و نظرت نحو سطح المياه، و توقف فيليكس عن تأمل هديته و زمجر فيّ بسخط:
" لماذا توقفت؟ هل أنت مجنون؟"

" يوجد شيء في الأسفل"

عقد فيليكس حاجبيه و أطل بحذر نحو وجه النهر.
اندفعت يد خضراء طويلة من عمق المياه و أمسكت بوجه فيليكس بين أصابعها التي شابهت أفرع الأشجار، ثم سحبته عنوة نحو ثم سمعت صوت ارتطام جسد بالمياه.
مال القارب بعنف لليسار، و تشبثت به بكل قوتي و أنا أدعو.

" باسم الأرواح السبعة! ارحلي أيتها الشيطانة"

رددت و أمسكت بتميمتي بإحكام، مؤمناً بأن جنود النور سوف ينقذونني من الشيطانة التي تسكن النهر.
لم أهتم لأمر فيليكس، لا أمل في إنقاذه و لن يخرج مجدداً؛ ستسحبه الأرواح التائهة نحو القاع، و لن يطول الأمر حتى يتحول بدوره لروح ضائعة تسكن قاع النهر مع أرواح كل من سقطوا هناك و صاروا ضحية لدزي وو زونا.

أبصرت أصابع طويلة مثل فروع الأشجار تمسكت بطرف زورقي بإحكام، و سمعت صوتاً رخيماً لعجوز:
" تعال إليّ، فيدريكو! تعال إلى جدتك!"

سحبت الأصابع زورقي بقوة و أمالته للجانب. تدفقت المياه و ملأت نصفه، و أدركت أنني أغرق.

" لا! اتركيني و شأني! لا"

قذفت بنفسي عن الزورق و سبحت بكل ما أوتيت من قوة طمعاً في الخروج من البقعة المشؤومة. شعرت بأياد باردة من أسفل المياه أمسكت ساقيّ بإحكام، قاومت و انتفضت، و ازداد عدد الأيادي المظلمة للأرواح في الأسفل.
راقبت زورقي و هو يغرق، و سحبتني الأرواح للشيطانة في القاع و غاص رأسي تحت المياه. نحو المصير المحتوم لكل من يطأ مرقد دزي وو زونا.


*******
تجربة كتابة قصيرة، تحمست للمشاركة في فعالية مع حساب الخيال العربي ثم داهمني الوقت و وجدت ان الفكرة الوحيدة التي اردت الكتابة فيها قد انتهت مدتها D': محاولة قصيرة من 850 كلمة، أعتذر عن الأخطاء لو وجدت.

🎉 لقد انتهيت من قراءة تحت قاع النهر 🎉
تحت قاع النهرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن