صدفة

268 6 1
                                    

#الفصل_الأول
                                     "صدفة"

*يمكنك المغادرة الآن؛إنها السادسة، لقد انتهى دوامك يا ابنتي*
تنبهت "ليالي" إلى صوت السيدة العجوز مالكة المطعم الذي تعمل فيه، فالتفتت إليها وقالت باسمة:
معذرة جدتي، لم أنتبه إلى الوقت.
ضحكت السيدة العجوز وهي تقول:
أنتِ دائمًا ما تدهشيني، زميلتك تراقب الوقت دائمًا.
وضعت " ليالي" الأغراض التي بيديها في الخزانة ثم أغلقت الباب وهي تقول وقد ظهر على وجهها بسمة حزينة:
لأنها لديها من تعود إليه،أما أنا فأنتِ تعلمين، لا أحد ينتظرني عند عودتي للبيت يا جدة.
قالت لها بحنان جارف:
رحم الله والديكِ يا ابنتي؛ لقد طلبتُ منكِ أن تأتى للعيش معي، ولكنكِ تغابيتِ ورفضتِ،أم يعجبكِ العيش مع تلك المرأة وابنتيها الحقودتين.
طبعت قبلة على وجنة العجوز وهي تقول بامتنان:
لا تدرين كم كنت سعيدة لعرضك هذا، ولكن أبناءك لن يوافقوا على هذا الأمر، ولا تنسى حفيدك أحمد، فهو يعيش معك بالبيت؛ كيف سنمكث معًا، وحتى وإن وافقت، أخي زياد لن يوافق.
ردت العجوز غاضبة:
  حين علم أحمد بما عزمت عليه اغتبط لرأيي، وقال لي انه سيترك البيت حتى لا تشعرين بالإحراج.
احتضنتها وقالت:
أشكر له تلك المشاعر الطيبة جدتي، ولكن لن أوافق أن يترك بيته لأجلى، أنا وأنتِ نعلم أنه لا مكان له ليذهب إليه، وهو لا يزال طالبًا بالجامعة، لن يمكنه تحمل تكاليف الانتقال، والأن على الرحيل لأن نقاشنا هذا لن ينتهي.
قبلتها ثانية وتأكدت من هندامها في المرآة وتفقدت حجابها، ثم خرجت وهي تلوح للجدة التي شيعتها ببصرها آسفة على تلك الفتاة التي تحمل همومًا فوق أكتافها أكبر من عمرها الذي لا يتجاوز الواحد والعشرين ربيعًا؛ رحيل والديها في حادث أليم، وهي لاتزال صغيرة، واحتيال عمها والهروب بميراثِها.رفعت يديها إلى السماء، وأخذت تدعوا الله لها أن يغمرها برحمته ويخلف عليها خيرًا، ويسعد قلبها،فهي قد تحملت الكثير، وعرفت طعم الهم قبل أوانها.

                             ********
كان بيت ليالي لا يبعد كثيرًا عن مكان عملها، لذا كانت تعود إلى بيتها سيرًا على الأقدام حيث كانت تعرج على شاطئ مهجور قريب، وتلك الليلة ذهبت إليه كعادتها كل مساء لتتنسم هواء البحر العليل، وتغمر قدميها في مياهه المنعشة، وتلقى بهموم الحياة بين أمواجه المتلاحقة.خلعت حذائها واقتربت من المياه، سرت رعدة بسيطة حين لمست المياه الباردة قدميها، لكن سرعان ما شعرت بالانتعاش. جلست على الرمال وأرخت حجابها على كتفيها لتشعر بالهواء وهو يحرك شعرها الأسود الحريري؛ مرت عدة دقائق وليالي غارقة في خيالها وأفكارها،ولم تنتبه على وجود ذلك الظل الأسود الرابض خلفها.
ارتعبت وصرخ قلبها رعبًا قبل شفتيها حين سمعت صوتًا يأتي من خلفها بلغة لم تفهمها، وارتجفت حين رأته يتقدم نحوها وهو لايزال يتحدث بتلك اللغة الغريبة؛ كان الصوت دافئ وعميق،ولكن منظر ذلك الظل كان مفزعًا، فاستجمعت شجاعتها وفرت هاربة،وهي تدعوا الله ألا يلحق بها، لم تلتفت إلى تلك الصخور والحصى التي كانت تمزق قدميها، فجل تفكيرِها كان منصبًا على الهروب من ذلك الشيء. توقفت ليالي عن الركض حين تأكدت  أنه لا أحد يلاحقها. وقفت وأخذت تلهث محاولةً التقاط أنفاسها المتقطعة.  تنبهت لأمر حجابها، فعدلته على عَجل، وحين وصلت إلى بيتها كان التعب والإرهاق قد أخذ منها مبلغه. استندت إلى باب المسكن المكون من ثلاثة طوابق، وبينما تستجمع شتاتَها سمعت صيحة مكتومة، وصوت يقول بجزع:
ليالي حبيبتي، ما بك؟
رفعت عينيها الدامعتين فوجدت شقيقها زياد؛ كان زياد أخاها من الأم. تذكرت كيف أتى إليها بعد يومين من حادث والديها ليخبرها أنهما أشقاء من الأم، وأنه يريدها أن تأتي لتعيش معه بالإسكندرية ؛ لم تكن والدتها قد أخبرتها أن لها أشقاء، ولكنها أحبته من أول وهلة وتبعته، وهي تشعر بالأمان،وظنت أن والده وزوجته سيعاملنها جيدًا مثل أخيها، ولكن زوجة والد زياد وابنتيها لم يرحبن بليالي منذ أول لقاء؛ فقد أجلستها المرأة في العلية، فلم تسمح لها بالعيش معهم بشقتهم.اعترض زياد، ولكن والده رضخ لزوجته، وكاد زياد أن يتشاجر معهم، ولكن ليالي منعته وأخبرته أنها ستكون هكذا اكثر راحة ، ومن يومها وزياد هو حصن الأمان لها.أقبلت عليه وقالت وهي تغالب دموعها:
اطمئن،أنا بخير.
لاحظ ارتجاف جسدها فاحتواها بين ذراعيه وهو يقول بغضب:
بخير؟ هل تمزحين معي،أخبريني من فعل بك هذا؟
صعقت لإدراكه ما يجول بخاطره، فبعدت عنه وقالت على الفور:
الأمر ليس كما تظن؛ كنت على الشاطئ،وفجأة سمعت أصواتًا، ولغطًا انتابني الفزع، فهرولت مبتعدة وأنا وجلة.
لانت أساريره وزفر بارتياح وهو يقول:
كدتِ تتسببين في فقدان عقلي.
ثم نظر إلى قدميها الداميتين وأكمل قائلًا:
- مازلتِ خرقاء كعادتك، وأظن أنكِ لن تكبري أبدًا، هيا لنصعد إلى شقتك لأعالج جروحك تلك، ونطهرها قبل أن تتلوث.
صاحت به مستنكرة:
زياد توقف عن معاملتي كطفلة،أنا في الحادية والعشرين من العمر، يمكنني الاعتناء بنفسي.
أمسكها من أنفها برفق وقال مازحًا:
مهما تقدم بك العمر، ستزالين قطتي الصغيرة،أفهمتِ؟
ابتسمت لحديثه وقالت بامتنان:
شكرا لك أخي، فأنت سندي بكل تأكيد، لا أدري كيف كنت سأحيا بهذا العالم من دونك.
احتضنها بحنان وهو يقول:
أيتها البلهاء، أيشكر الأخ على اعتناءه بأخته ! أنتِ لا تعلمين مقدارك عندي ليالي؛ أتمنى من الله أن يكتب لكِ سعادة تأتيكِ من حيث لا تدري.
وقبل أن تتفوه ليالي بكلمة، سمعا صوتًا يقول:
يا له من منظر شاعري ، ما هذا يا سيد زياد؟
التفت الاثنان إلى مصدر الصوت وأجاب زياد ضاحكًا:
كما ترين يا عائشة ، أحتضن بين يدي فتاة جميلة، ألديكِ مانع يا عزيزتي؟
ضربت عائشة الأرض بقدميها وقالت مازحة :
ابتعد عنها، وإلا أقسم أن أفسخ خطبتنا ، أفهمت !
قالت  ليالي :بسخرية
أتركني يا هذا اتريدها أن تقتلنا معا  , سأصعد لأرتاح وتمنى لأبي وأمي والباقين ليلة سعيدة.
ثم التفتت إلى عائشة وقالت ضاحكة:
هاهو لقد تركته أرفعي عنا لعنتك !
قالت عائشة :
أنتِ تعلمين أنني أحبه بشدة، وأغارعليه من الهواء الذي يتنفسه يا ليالي، اعذريني.
أجابتها وهي تربط علي كتفيها :
أعلم يا عائشة، ولكن نحن إخوة من الأم، وليس لأننا لم ننشأ معًا فهذا يعني أننا غرباء.
ثم قالت لها متصنعة الغضب :
فلا تقولي ما قلتِ منذ قليل،لأنني لن أتساهل معكِ بعد الآن.
صعدت إلى شقتها، وما إن أغلقت الباب، حتى بدأ جسدها بالصراخ من الألم، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة. جرت قدميها إلى حجرتها، وأخرجت بعض الثياب، لتأخذ حمامًا لتنعش به نفسها، وتزيل ما علق بها من متاعب ورواسب اليوم، وما انتهت حتى عالجت جروح قدميها.  شعرت بالراحة بعد تضميد قدميها، فاستلقت على سريرها، وسحبت الغطاء عليها ، وأطفأت الأنوار لتحظى بالراحة بعد عناء يوم طويل.

انجريدوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن