-2-

3 0 0
                                    

الليل يحتضن الحجرة البعيدة في فراغه وسكونه وأزليته، والنجوم تضيف شيئًا من أمل ووميضًا حزينًا في السّماء السّوداء كأنّها بريق الدموع في عين الكون، تجلس "إيسون" القرفصاء وتحدق بعينين مرتجفتين محمرتين في حائط حجرتها وقد امتلأ في كل أركانه بصورة وبعض الكلمات، صورة رجل يبتسم ابتسامة حادة في ركن من أركانه، وصورة سيدة في عمر الأربعين، انسدل شعرها القصير على كتفيها، يحد وجهها خطوط تدل على عمرها الكبير، وصورة سيدة أخرى ترتدي النظارات وتغطي رأسها بخمار طويل، تنفست "إيسون" الصعداء، ثم أخذت تتمتم بصوت خفيض:

-" لا تقلقي يا "آزاد"، إنني أفتقدك.. سوف آخذ بثأرك."

ليشرق الصباح بنور ذهبي فضفاض، ومشت "إيسون" نحو طريقها إلى المكتبة، بابتسامة منضبطة، تمسك بحقيبتها الصغيرة في تحفظ، تلقي السلام مرحبة بكل من يمر بقربها، اتجهت صوب إحدى مسؤولات المكتبة، السيدة " عليّة "، وفي ترقب وتبسّم، أخذت "إيسون" تدون اسمها تطوعًا لقراءة الكتب للمكفوفين وبالأخص "آزاد"، وترقب السيدة في تحدٍ، أخذت "عليّة" تهندم نظارتها ثم ناولتها بطاقة بياناتها، وقالت:

-" سأكون أول من يساعدك عندما تحتاجين أي شيء. "

أجابت "إيسون" برفق:

-" أتمنى ذلك."

ثم رحلت بابتسامتها المتحفظة لتجلس بقرب "آزاد". وبكل شغف، أمسكت "إيسون" يديها، ثم قالت لها:

-" صباح الخير، ماذا نقرأ اليوم؟ على ذوقك أم ذوقي؟ "

ابتسمت "آزاد" ثم قالت برفق:

-" على ذوقك بالطبع. "

-" حسنٌ، لأرشح لكِ هذا الكتاب. "

أخذت "آزاد" تمرر يديها على صفحات الكتاب في حماس، فأكملت "إيسون" حديثها بصوت خفيض مرتجف:

-" لن أخبرك بالطبع أنها كانت القصة المفضلة لصديقتي المقربة. "

ضحكت "آزاد" قائلة:

-" ولن أخبرك أيضًا أنني متحمسة لمعرفة ذوق صديقتك. "

ابتسمت "إيسون"، وتناولت الصفحات الأولى برفق، وأخذت تقرأ بشغف وحماس، تداعب رفيقتها قليلًا وترسل إليها ابتسامة وحبًا تشعر بهما وتراهما في صوتها، فتحب رفقتها، وتوالت الأيام، و"إيسون" على هذا الوضع، كل يوم في المكتبة، تقرأ بضع صفحات من تلك الرواية الطويلة، و"آزاد" تتعلق بالأبطال وتسألها بحبٍ عنهم، وهذا ما تقضي فيه يومها في غروب شمسه لمسائه، أما في صباحه، متخفية بردائها على كل بقاع جسدها، تترقب بعض المنازل وأصحابها، تترقب ثلاثًا من المارة، تضع عينيها عليهم وتتفحصهم في صمت، وتدون عنهم كل شيء، حتى تفاصيلهم الصغيرة.

وأصبحت الأيام تطوى كطيّ صفحات الكتاب وتكاد أن تكون أشد سرعة وأعلى دويًّا.

حتى تغلق الرواية على آخر صفحاتها وتخبر "آزاد" أن النهاية تقترب، ويجب أن تتوق إليها وتترقبها إلى اليوم التالي.

ومرت الليالي لتقف عند ليلة، تقف فيها "آزاد" في المنام أمام صديقتها وتعاتبها عتابًا قاسيًا، وتقول لها بحدة:

-" أما أردتِ أن أُقتل يا "إيسون"؟ لماذا لم تخبريهم بحقي؟ إنكِ صديقة سيئة، لم أدرك أبدًا أنك تضمين صوتك إليهم، وقد اتخذتك رفيقة دربي."

تنتفض "إيسون" من مضجعها، وقد تخبطت أنفاسها وامتزجت بالدموع، وضعت يدها على قلبها وقد كان يخفق ويرتجف كأنه يلفظ آخر أيامه، ضمت الوسادة إلى وجهها، وصرخت بألم يثور في صدرها مدة العامين.

-" نعم يا "آزاد" سامحيني، إنني أسوأ صديقة، بل أسوأ من خُلِق من بني البشر. "

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 12, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

عندما يغيب النهارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن