تجري وحدها بخطوات متعثرة تحت الغيث، بفستانها الأصفر الذي يكاد يصبح شفافا بسبب قطرات الماء الغزيرة، تحمل في يدها دميه ممزقة اليد وصورة لبنت وولد، توقفت فجأة بعد ان أخذ منها التعب نصيبه فغطت وجهها بيدها وانفجرت في سورة من البكاء، الوقت متأخر، ضوء مصباح خافت، الكل في منزله فليالي الشتاء أقسى من ان يدرج أحد خارج بيته، وأقسى من الفتاة المنهارة في مكانها، خصلات شعرها المبتلة تخفي ملامحها، فجأة وقع خطوات راكضة تقترب اتجاهها، وقف وراءها تماما كمن لا يجرأ على الاقتراب، همس«أنا آسف» لم تجبه وأصرت ألا تفعل تمالكت نفسها لكن بعد مرور برهة ساد فيها صمت أصم إرتفع صوت نحيبها، لم يستطع أن يمضي في جموده وصمته فاقبل عليها خافق القلب وأخذها الى صدره في حنان قاسي، قال بنبرة إخلاص«لم ارد ايذائك، حقا لا أريد ذلك كل ما في الامر...» إنحلت من ضمته بصعوبة ودفعته ثم رفعت إليه عينيها المرهقتين، بنظرة منكسرة قالت «كف عن إيجاد مبررات لقسوتك وعنفك كف عن تكرير نفس الكلمات في كل مرة كف عن...(طغى الحزن في كلماتها لكن أكملت جملتها).. كف عن جعل حياتي بائسة برفقتك وأكثر بئسا بدونك» لم تزح نظرها عليه، تحدق في عينيه بقلة حيلة، تعاتبه بعينيها المحمرتين، أزاح نظره الى الارض تجنبا لصرخات ملامحها، إنقبض قلبه وأحس بحرارة كما لو كان يقف تحت شمس منتصف النهار، أحس بقطرات المطر ساخنة تتبخر فور لمسها لجلده، تساءل بداخله، كيف لهذا الوجه الملائكي أمامه ان يفطر فؤاده، تمنى لو أمكنه اخبارها كم هي جميلة في ثوبها الشفاف وشعرها المبلل وملامحها الحزينة، لو أمكنه وصف لها مايراه امامه من لوحه ناذرة تجمع بين ارقى مظاهر الحياة، بين غموض الظلام وهيجان الرياح وشفافية الماء على الارض، بين ضوء المصباح الخافت وضوء عينيها البراق وجسدها المنحوت والهالة اللامعة المحيطة بها، مع سيمفونية من عزف إيقاع المطر وهديل الرياح، اقترب خطوة منها فكان لها أن تراجعت خطوتين، تجرأ قائلا«عندما أكون في حضنك بالكاد أقدر على التنفس، يصعب علي إستنشاق هواء غير عطرك، تصعب علي الحياة بدونك أريد إبقاءك في غرفتي كتحفه فنية، تلامسك أشعة الشمس في كل شروق فتنشرين النور فيي، أتمنى لو يمكنني الحفاظ عليك دون ان أعاقبك أو أجرحك، لكن شياطيني تأبى البقاء مختبئة، كذلك الحقيقة، أريد إبعادك عن مملكتي النازحة لكن قلبي وعقلي أدمناك، عيني وفمي لا ينفكان يثوران في غيابك، قدمي ويدي يتمردان فأفقد السيطرة على جسدي، كل أعضائي تحتج، نريدها الآن وإلى الأبد» قاطعته صارخة في وجهه«أصمت ارجوك، بددت كل آمالي، ظننت ان مستقبلنا مشرق، ظننت أننا سنحيا مثل حبيبين طبيعيين مع بعض المشاكل التي سنصلحها معا لكن لم يخطر لي يوما أنك ستضحي ساديا يتمتع بتمزيقي وتعذيبي، تحلف أنك لن تضربني ولن تفعل أي شيء لتؤذيني لكن ما إن تشعر بالغيرة أو الخوف حتى تفقد عقلك وتطلق شياطينك لتغزو كل شيء بداخلي، ندخل في مواجهة فننفث السم مع كلماتنا، نضرب بعضنا، تلقيني على الأرض وتقول أنه من الأفضل أن يذهب كلا منا في طريقه، فتفوز دائما حتى لو كنت على حق، تتركني مشفقة على نفسي محاولة إستجماع شظايا كرامتي، أقرر تركك فتغلق الباب وتتوعد وتعد، تخبرني أن البارحة إنتهى وإنه ليوم مختلف تخبرني أن المرة القادمة ستتحكم في أعصابك فقط من أجل فرصة اخرى لكن الحياة ليست بلعبة تكرر فيها أسطوانتك المكسورة» إنتفضت يده وإرتفعت نبضات قلبه فاقترب منها وأمسكها من يدها بقوة وقاطعها هو الآخر «نعلم أننا قلنا وفعلنا أشياء لم نكن نعنيها، نكرر نفس التصرفات ونفس الروتين لكنك عصبية مثلي، قد سبق لك أن ضربتني مرتين أو ثلاثة لكنني فقدت العد لعدد ضرباتي، أذكر مرة عندما حاولت لمسي لكني صرخت عليك ألا تلمسيني، عندها هربتي من الغرفة فلم أستطع تكلف اللامبالاة وتبعتك كطفل ظال، أليس هذا كافيا لإظهار جوهري الخائف من فقدانك، حبيبتي أنا ضائع بدونك، أنا نكرة في غيابك، ٱحضنيني وأخبريني عن مدى قبحي وعن مدى كراهيتك تجاهي لكنك رغم هذا ستبقى تحبينني لأن الحب يعميك مثلي تماما، عودي أرجوك هيا بنا إلى المنزل، سنجد ينبوع عشقنا وسنحيا شبابنا إلى الأبد، لاتتركيني» تساقطت عبارات على خدها وبلعت ريقها بصعوبة ثم قالت«أريد الهرب بعيدا لكن لا أريد الرحيل أبدا سأعانقك وأخبرك عن قبح روحك، سأستمع لأكاذيبك التي تطعمني من خلال الكلمات المخيفة ووعيدك الفارغ، لربما انا مازوخية راضخة لطريقة عذابك و كذبك، لأنني أعلم وأنت تعلم أنك تكذب، نعلم أن داخلك المظلم يصعب الإقتراب منه، رغم أنني عندما أحدق في عينيك اتعلق بك أكثر لكن يجدر بالرحيل سأعيش على ذكراك فوحدها تكفيني» ارتفع صوت العاصفة وتراقصت الاشجار بقوة، دفعت الرياح جسدها البارد إلى الوراء فسحبها من يدها وأحكم قبضته، إقترب اليها فهمس لها في اذنها «لا،لن ترحلي،لنعد الآن إلى بيتنا وحياتنا» حاولت أن تتخلص من قبضته ففشلت عندها إنهارت واقعة على ركبتيها «نفذ رصيدي من الصبر، أنا متعبة بشدة، أريد إنهاء هذه اللعبة اللعينة» إنحنى إليها وركع هو الآخر على ركبتيه فوضع رأسه على رأسها وأجهش في البكاء، إنها مرته الأولى، عانقها ووضع وجهه في عنقها وأخذ يتمتم بكلمات متقطعة «إن تركتني وغادرتي سأبحث عنك إلى أن أجدك ثم أقتلك وأجعل من جسدك دمية تبقى إلى جانبي مدى الحياة» وقفت وأدارت وجهها ثم خطوت ببطئ بعد أن قالت «النتيجه واحدة، انا ميتة على كل حال» ترتكته منهارا على الأرض تحت قطرات المطر وحز ذلك في قلبها فعادت وأمسكته من يده وطلبت منه الوقوف ثم أعطته الدمية و الصورة التي كانت تحمل ووضعت قبلة باردة على خده، أحست برعشة تسري في جسدها دفعتها لإكمال مسيرة رحيلها، ابتسمت له برقة وغادرت بخطوات بطيئة.
وقف مترقبا ظلها الذي يبتعد ويضيع في الأفق وقد أيقن أخيرا أنه يجدر به إعطائها حريتها وتركها تشق دربها بعيدة عنه، نظر الى الصورة التى أعطته، كان قد إلتقطاها في بداية علاقتهما، تأمل ملامحها المنفجرة انوثتها وبراءتها، تأمل سعادتها وهي تقبله في خده وممسكة يده آملة ألا تتركها أبدا، فابتسم بحزن وقال للدمية الممزقة الذي كانت أول هدية يهديها لها «سأقتات على حبها وسأعيش على ذكراها أيضا لعلها تكفيني»
أنت تقرأ
سأقتات على حبك وحده يكفيني (مكتملة/مكونة من فصل واحد)
Short Storyأريد الهرب بعيدا لكنني لا أقوى على الرحيل أبدا.... لربما أنا مازوخية أتلذذ بوحشيتك وطريقة وكذبك.