لا شيءَ يجعلُنا نشعرُ بالحنينِ إلى الماضي أكثرَ من فقدانِ شيءٍ كنّا نعتقدُ أنّنا نملُكُه للأبد. إنّها تلكَ اللّحظةُ الّتي تدركُ فيها أنّ الحياةَ تمرّ بسُرعة، وأنّ العواطفَ الّتي تشتعِلُ فجأةً يمكنُ أن تترُكَ أثرًا لا يُمحى في قلبِ الإنسان...
لا شيءَ يجعلُنا نشعرُ بالحنينِ إلى الماضي أكثرَ من فقدانِ شيءٍ كنّا نعتقدُ أنّنا نملُكُه للأبد. إنّها تلكَ اللّحظةُ الّتي تدركُ فيها أنّ الحياةَ تمرّ بسُرعة، وأنّ العواطفَ الّتي تشتعِلُ فجأةً يمكنُ أن تترُكَ أثرًا لا يُمحى في قلبِ الإنسان...
أخبرَني راهبٌ ذات مرّة:
((كلّ ما تعلّمته من رهبنَتي في العشرين سنةً الماضِية، يتلخّصُ في جملةٍ واحِدة: كلّ ما يظهرُ، يموت. أعرِفُ هذا.))
ما عناهُ كان بالطّبعِ ما يلي:
((تعلّمتُ ألّا أقاومَ ما هو كائن؛ تعلّمتُ السّماحَ للّحظةِ الرّاهِنة بالتّواجد، وقبولِ الطّبيعةِ اللّادواميّةِ للأشياءِ والحالاتِ كلّها. هكذا وجدتُ السّلام)).
الدّليلُ إلى التّنويرِ الرّوحيّ
إنّها السّادِسةُ صباحًا
أدخلُ منصّتي بعد رحلةٍ آثمةٍ طويلة
كأنّها امتدّت سبعينَ عامًا، قضيتُها بينَ الحسابات...
على ما أذكُر أنّها كانت البارحةَ فقط، حين خالَجني القلَق، وفكّرت في الدّخولِ إلى هنا لأقضي نصفَ ساعةٍ تكونُ كافيةً لإخمادي وإشعاري بالمللِ إلى أن أنعسَ وأنام...
لا أدري ما الّذي حدثَ بالضّبط أو كيفَ وصلتُ هناك، لكنّني أعرِفُ أنّني وصلتُ إلى الكثير، الكثيرِ جدًّا...
رأيتُ الواتباد كما لم أرَهُ من قبل، فقد كان الواتباد كما لم يكُن من قبل. لأوّل مرّةٍ أشعرُ أنّه ينبُضُ بكلّ هذه المشاعِر، كأنّه مكانٌ أصبحَ يرمي فيهِ النّاسُ مشاعِرَهم بدلَ الكلمات، وأضحَت الحساباتُ فيه أزقّةً تَتيهُ فيها، لكلٍّ منها حكايةٌ وسكّان...
وفي خِضَمّ كلّ الأزِقّة، أدركتُ أنّ من يتيهُ فيها يجدُ نفسَه، ومعَها الكثيرُ من المَعاني، والإجابات، ويخرجُ بالكثيرِ من الأسئلة؟
أينَ ومتى وكيف؟ أيّ شارعٍ كانَ يُخفي كلّ تلك الأزقّةِ والقِصَص؟ أينَ كنتُ من كلّ ذلك؟ هل حقًّا كنتُ أظنّ العالمَ هُنا مجرّدُ بعضٍ من الرّوايات..
حقيقةً، نعم، اتّضَحَ أنّ الواتباد حاضِنٌ للكثيرِ من القِصص، لكنّ أفضَلها بل أشدّها فتكًا هي تلكَ الّتي لم يحتَويها كتاب، إنّها ما نستخلِصهُ من جموعِ الرّسائل المبعثرةِ على الحوائط، حوائطُ أزقّةٍ شَهدت ما لم يشهَدهُ مسرَحُ المدينة...
والآن،
@EMAILOO
الآنَ فقط بدأتُ أشعرُ بالثّقلِ يجتاحُ جفوني، ربّما هو نُعاس، أو ربّما هوَ عقلي لم يستَطِع تحمّلَ كلّ ما تجرّعَهُ بالقوّة، وأضحَت أفكاري الخصبة سريعةَ التّكاثُر تنزلِقُ منه مثلَ قَيحٍ يفيضُ من جرحٍ مُلتَهِب...
لا يُهمّني ما يُثقِل جفوني، أريدُ فقَط أن أنام، لساعةٍ ربّما، أو للأبَد، أو إلى أن تأتيني أمّي ظُهرًا وهيَ تشتَكي لي منّي، وتُخبِرني كالعادةِ بينَما تُلملِمُ شتاتَ ثيابي على الأرض عن ليلى النّشيطةِ الّتي ستراها بعد ساعةٍ من الآن تخرُجُ بكومةِ الغسيلِ لتُريها للشّمس..
أمّي العزيزة
أعلمُ أنّكِ لا ترَينَ ما أكتبُه هنا لكنّني سأنفُضُه عن قلبي كما تنفُضُ ليلى قميصَ أبيها قبلَ تعليقِه على المِنشَر،
عندما ستأتينَ لي هذه المرّة،
فليكُن في حسبانِكِ أنّ الثّياب ليسَت كلّ ما هو مُشتّتٌ في غرفةِ ابنَتِك الطّائشة، وما هوَ مَرميٌّ على الأرض ليسَ فقط أغراضي..
ليلى غَفَت على العاشِرةِ يا أمّي
رأيتُ مصباحَ غُرفتِها وقد غفى على العاشِرة
لم يكُن لليلى جرحٌ مُلتَهِبٌ في عقلِها يا أمّي
هي مسكينة بائسة لا تفكّرُ إلّا بمازنِ الوسيمِ الّذي يقطُنُ في أوّلِ الشّارِع،
أمّا أنا يا أمّي فلديّ الكثيرُ غيرُ مازِن
لديّ أزقّةً أزورَها، وقِصَصًا لأقرأها عن الحوائط، ودموعًا دراميّةً لأذرِفَها وابتساماتًا خرقاءَ لأبتَسِمَها في مُنتصَفِ اللّيل...
لذا دعكِ منها يا أمّي
دعيني أنام وارمِ الثّيابَ وليلى في النشّافة
أو دعيها لأترُكَها وجبةً لأحدِ ذئابي الجائعة.. ('
أريدُ أن أبدَأ مِن حيثُ انتَهيت، أسيرُ مُعتدِلًا كأنّني لم أتعَرّض إلى أيّ إصابَةٍ من قَبل، أنظرُ إلى الأشياءِ الّتي لم تَعُد لي ولا أريدُ استِعادَتَها، أتفقّدُ ماضِيَّ دونَ أن يَرِفَّ جفني، أو يَحِنّ قلبي، أو يتحرّكُ بداخِلي شعورًا كانَ قد سَكَن...
أريدُ أن أنهَضَ تارِكًا ثِقلَ الغَضَب، حامِلًا الأمَلَ لا اليَأس، خالِيًا من أيّ ضغينة، داعِيًا لكُلّ فضيلة، أبحثُ عن السّكينَةِ في الأرجاء، لأعودَ بكامِلِ سكينَتي إلى اللّحظةِ الرّاهِنة، تارِكًا خلفي كلّ ما أثقَلَ روحي لسنوات...