كان صباحًا عاديًّا،
الشمسُ تشقُّ ستائرَ الحلم،
وصوتُ صغيري يوقظُ قلبي،
ضحكتُه… كانت عالمي.
يداهُ الصغيرةُ تتشبثُ بقلبي،
خطاهُ تتعثرُ في حضني،
كلّ شيءٍ كان يُخبرني،
أنّ الحياةَ جميلةٌ في عينيه.
حتى ذلك اليوم…
صرخةٌ واحدةٌ شقّت السكون،
أصواتٌ غريبةٌ خطفتني من عالمي،
نظرتُ حولي،
صغيري؟!
ركضتُ… وصدى قدميّ يسبقني،
قلبي يلهثُ، ينهارُ،
الشوارعُ بلا وجهٍ،
العالمُ ضبابٌ كثيف.
"أعيدوه إليّ!"
لكنّ الصدى كان أقسى مني،
لا إجابة،
لا صوت،
ولا يدٌ تعيدُ يدي الصغيرة.
مرّت الأيام،
صغيري ما عاد،
صغيري… صار فراغًا في حضني،
صوته الذي كان يملأ بيتي،
تحوّل إلى صمتٍ يبتلعني.
كلّ مساءٍ أجلسُ على العتبة،
كأمٍّ تنتظرُ طيفًا لن يعود،
أحدّقُ في الطريق،
وأهمسُ باسمه.
لكنه لم يُجب.
وحتى الريح خجلتْ من حملِ صوته،
فبقيتُ أنا… أمٌّ بلا طفل،
وحياةٌ بلا نبض.
يا أبي،
كنتَ يفترض أن تكونَ السند،
أن تكون الأمان في عالمٍ قاسٍ،
لكنّ يدكَ التي كان يُفترض أن تحنو،
كانت سيفًا يمزقُ روحي بلا رحمة.
يا أبي،
عنفكَ الجسدي كان كالعاصفة،
ينهشُ طفولتي، يهدمُ براءتي،
وفي كل مرةٍ كنتَ تضربني،
كنتَ تزرعُ في صدري خوفًا،
وتطفئُ في عينيّ نورَ الحياة.
كيف أشرحُ لكَ الألم؟
كيف أخبرُك أنني في كل ليلةٍ،
أحاولُ أن أداوي الجراح التي لم تلتئم،
وأن أهربَ من صدى صراخك،
الذي لا يزالُ يترددُ في أعماقي؟
كنتُ طفلةً تبحثُ عن الحب،
لكنني وجدتُ بدلًا منه جدرانًا من القسوة،
بحثتُ عن نظرة فخرٍ في عينيك،
فلم أجد إلا نظراتِ الغضب.
كل ضربةٍ كانت تُكسر شيئًا بداخلي،
حتى لم يبقَ مني سوى بقايا هشة.
يا أبي،
أمراضي النفسية تحملُ اسمكَ،
قلقي، خوفي، انكساري،
كلها وُلدت من عنفك،
من كلماتكَ التي طعنتني،
ومن صمتك الذي خذلني.
هل تعلمُ يا أبي؟
أنا لم أكرهك رغم كل شيء،
لكنني كرهتُ نفسي التي صارت صورةً لجراحك،
كرهتُ انعكاسي الذي يصرخُ بذكراك.
عاتبتُ نفسي ألف مرة،
ظننتُ أنني السبب في غضبك،
أنني كنتُ قليلةً في عينيك،
لكن الحقيقة يا أبي،
أنك أنتَ الذي أخطأت،
أنتَ الذي خذلتني،
وتركتني أواجهُ الحياةَ بروحٍ مثقلةٍ بالوجع.
يا أبي،
أين كنتَ عندما كنتُ أبكي وحدي؟
عندما كنتُ أرتجفُ من ألمِ كلماتك؟
أين كان حنانُك؟
أم أنّ القسوةَ كانت خياركَ الوحيد؟
اليوم،
أحملُ ندوبَك في داخلي،
لكنني أحاولُ أن أكون قوية،
أحاولُ أن أكون شيئًا،
رغمَ أنكَ كسرتني ألف مرة.
فقط أردتُ أن تعرف،
أن غيابكَ لم يكن المشكلة،
بل وجودكَ المؤلم هو الذي دمرني.
أشتاقكِ، وما أشدُ اشتياقي حين أُخفيه،
حين أكتم صوت قلبي كي لا يسمعكِ ألمه.
أخاف أن ترى عينكِ وجعي، أن تطالكِ عاصفتي،
وأنا يا صديقتي، أحاول حمايتكِ مني.
أحمل داخلي جدلًا أعمق من الكلام،
لكني أبتعد، لأنني أعرف أن قربي قد يُثقل.
لست سوى روح متعبة، تخشى أن تفسد نوركِ،
فأبني بيننا جدارًا من صمتٍ يحميكِ.
قسوتي على نفسي ليست عقابًا، بل حماية،
أجرح قلبي كل يوم كي لا يمسكِ الأذى.
أختار البُعد وأنا أموت بالشوق،
لأنني أحبكِ بما يكفي لأختار ألم الفراق.
في كل خطوة أخطوها بعيدًا، يزداد حنيني،
وفي كل نظرة إليكِ، أتذكر السبب.
أنت أمان لا أريد أن أعكر صفاءه،
وأنا يا صديقتي، مجرد ظلٍ يحرص النور.
ضاق صدري بالشوق، والأحرف تتناثر في يدي،
أفكاري خصيمة، والقلب غارقٌ في همسٍ بطيء.
كل حرفٍ كان لي وطنًا، أصبح الآن سرابًا،
والقلم في يدي صامتٌ، كأنَّ الجرح يراودُه.
الكتابة كانت لي حياة، والآن صارت دمعًا حائرًا،
والروح تشتاق للكلمات، لكن الصمت يعانقني.
قلمي رفيقُ القحط، والألم هو الطريق،
هل سأتوقف هنا؟ أم سيظل الحزن أعمق من كل حرف أكتبه؟