arshead15
إن الغريزة لا تقف عند حدود الجسد ولا تقتصر على طلب اللذة أو النجاة، بل إنها بنية سحيقة، تُنظّم الوهم قبل أن نعيه، وتنسج حولنا خريطة “الواقع” التي نسير عليها دون أن نطرح سؤالًا واحدًا عنها.
إنها لا تكتفي بأن تدفعنا إلى الاستمرار، بل تفرض علينا تصورًا خفيًا للاستمرار ذاته. تستعير أشباح الماضي لتصوغ بها صورة المستقبل، كأنها تقول لنا: “ستكون كما كنت”، “وستُعيد الدوران”، “لا مهرب من الدافع الذي جاء بك إلى هنا”.
حتى الموت، الذي نعتقد أنه نهاية، تتسلل إليه الغريزة كاحتيال أخير: تُصوّره امتدادًا لحياتنا، أو تحوّله إلى أمل بالخلاص، أو تُزيّنه بتخيلات تتسق مع الحاجة إلى البقاء، لا مع الحقيقة.
هكذا تُعطي الغريزة الحياة اليومية ملامحها، وتُصبغ “الطبيعة” بلونها. فلا يعود ما نراه طبيعيًا إلا قيدًا مموّهًا: سلوكًا مكررا، شكلًا متوارثًا، خوفًا يلبس لبوس العقل.
لكن العقل القوي، لا العقل المتواطئ مع الغريزة، هو وحده القادر على رفع الغشاوة. ليس بالرفض، بل بالإخضاع. ليس بإنكار الغريزة، بل بفهمها كما يُفهم العدو، لا لتدميره، بل لتجاوزه.
العقل في أقصى طاقاته لا يُحارب الغريزة، بل يُفككها. يراها كما هي: قوةٌ أولى، لكنها ليست نهائية.
من هنا يبدأ التحرر: أن ننتزع تعريفنا للواقع من قبضة الضرورة، أن نُعيد تشكيل الحياة لا كما تمليها الغريزة، بل كما تُمليها إرادتنا. أن نحيا لا لأن الحياة تُريد، بل لأننا نُريد.