
cordeliaspotion_
كانت المدينة نائمة، أو هكذا بدت لي وأنا أسير في شوارعها الهادئة. كان الليل باردًا، لكنه لم يكن مزعجًا، بل كأنه غطاء شفاف يفصلني عن العالم دون أن يعزلني تمامًا. لم يكن هناك وجهة، فقط رغبة غامضة في المشي، في أن أترك قدميّ تقودانني دون تفكير. عند زاوية الشارع، كانت هناك عربة قهوة صغيرة، يعلو منها بخار دافئ في الهواء البارد. خلفها، وقف البائع بوجه هادئ، وكأنه اعتاد الانتظار أكثر مما اعتاد البيع. اقتربت، فقال دون أن يسألني: "? قهوة سوداء، صحيح ابتسمت، لم أكن أعلم إن كان قد عرفني من قبل، أم أن الأمر مجرد حدس. ناولني الكوب الورقي، ووقفت هناك . للحظات، أراقب البخار المتصاعد وأستمع إلى هدير المدينة الخافت ."أتحب عملك؟" سألت فجأة نظر إليّ لثانية قبل أن يجيب: "أحبه بما يكفي لأن أعود إليه كل يوم. وأنت؟" شعرت بالسؤال يعلق في الهواء. فكرت للحظة، ثم أجبت بصوت لم أكن متأكدًا من صدقه: "لا أعرف بعد." لم يرد، فقط ابتسم كأنه يفهم. وضعت النقود على الطاولة، لوّحت له، وابتعدت، أرتشف قهوتي ببطء بينما الليل يمتد أمامي بلا نهاية.

cordeliaspotion_
عندما خرجت، كان الهواء أكثر برودة، وكأن المدينة استيقظت قليلًا رغم بقائها صامتة. سرت بخطوات بطيئة .أستمع إلى وقع قدميّ على الإسفلت الرطب. لم يكن هناك شيء مستعجل، لم يكن هناك شيء مؤكد عند الجسر الحجري القديم، توقفت. وقفت أنظر إلى النهر الذي يعكس أضواء المصابيح كفسيفساء من نور يتراقص فوق الماء. لطالما كنت أجد في هذا المكان راحة غامضة، كأن المياه تحمل أسرارًا لا يمكن البوح بها، لكنها تبقى هناك، تنتظر من يفهمها دون أن يسأل. سمعت خطوات تقترب. التفت قليلًا، فرأيت شخصًا يقف بالقرب مني. لم أتعرف عليه، لكنه كان يبدو مألوفًا بطريقة ما. ربما رأيته من قبل في أحد الشوارع، أو ربما كان مجرد شعور عابر. "جميل، أليس كذلك؟" قال بصوت هادئ. نظرت إليه للحظة، ثم عدت إلى تأمل الماء. "نعم، لكنه يبدو مختلفًا كل ليلة." ابتسم، ثم أخرج من جيبه علبة سجائر، أشعل واحدة، ثم عرض عليّ واحدة. هززت رأسي نافيًا، فاستدار قليلًا وحدق في المدينة الممتدة أمامنا. "أتعرف؟" قال وهو ينفث الدخان ببطء. "كل ليلة أمر من هنا، وكل ليلة أشعر وكأنني أراه للمرة الأولى." أومأت برأسي. كنت أفهم تمامًا ما يعنيه. الأماكن لا تتغير، لكننا نحن من نتغير، نحن من نعيد تشكيل ذاكرتنا عنها كلما عدنا إليها. وقفنا هناك لدقائق، دون أن نتحدث أكثر. لم يكن هناك حاجة للكلمات. كانت المدينة تتحدث عنا بصمتها، وكانت مياه النهر تروي قصصًا لم نكن بحاجة لسماعها لنفهمها. عندما قررت الرحيل، ألقيت عليه نظرة أخيرة، ثم قلت: "أراك غدًا، ربما." ابتسم ابتسامة خفيفة، ولوّح لي بكوب قهوته، تمامًا كما فعل بائع القهوة في أول الليل. ثم استدرت ومشيت بعيدًا، بينما بقيت المدينة تراقبني، تمامًا كما كانت تفعل دائمًا
•
Reply

cordeliaspotion_
كانت الطرقات شبه خالية، إلا من سيارات قليلة تمر على فترات متباعدة. في زاوية أحد الشوارع، كانت هناك مكتبة صغيرة، أضواءها ما زالت مضاءة رغم تأخر الوقت. توقفت أمام الواجهة الزجاجية، تأملت العناوين المتراصة على الرفوف. بدا المكان دافئًا، مختلفًا عن برودة الشارع الخارجي. دفعت الباب الخشبي بهدوء، فصدر عنه صرير خافت. كان هناك رجل يجلس خلف الطاولة، منهمكًا في قراءة كتاب قديم رفع رأسه ونظر إليّ للحظة، ثم عاد إلى قراءته وكأن حضوري لم يكن مفاجئًاسرت بين الرفوف، لم أكن أبحث عن شيء محدد، فقط أتنقل بين العناوين، ألمس الأغلفة كما لو كنت أستطيع الشعور بحكاياتها قبل أن أقرأها. مررت بأصابعي على غلاف كتاب يحمل عنوانًا مألوفًا، تذكرت أنني قرأته قبل سنوات، لكنني لم أعد أذكر تفاصيله. سحبت الكتاب ببطء، فتحته على صفحة عشوائية، وبدأت أقرأ. "البحث عن إجابات لا يعني أننا سنجدها، لكنه يمنحنا سببًا للاستمرار." ابتسمت. وكأن الكلمات وجدتني بدلًا من أن أبحث عنها. أغلقت الكتاب، حملته معي إلى الطاولة، دفعت ثمنه، ثم خرجت إلى الشارع مجددًا. الليل ما زال طويلًا، لكنه لم يعد يبدو فارغًا كما كان
•
Reply