is17rr

متوفر شحن لجميع أنحاء العالم 
          	ولكن عبر الرابط لدول الخليج فقط
          	من الدول الأخرى تواصلوا على رقم واتساب حتى يتم إيصال الكتاب لكم أينما كنتم 

Rojina26

كان الليل يُفرغ أحشاءه فوق رأسي، لا كستارٍ وديع، بل كوحشٍ ينزف ظلامًا قطرة قطرة. لم يكن مجرّد غيابٍ للشمس، بل غيابٌ لكل شيء اعتدت أن أراه جميلاً. اللون، المعنى، الرجاء... كلّها انمحت، وتركَتْني وسط العتمة أغرق.
          السواد لم يكن حولي فقط، بل فيّ. كان يسكنني، يتكاثر في صدري، ويصبغ ملامحي بلونه القاسي. شعرت كأنني تحوّلت إلى ظل، لا روح فيه، لا ملامح له، سوى انكساراتٍ خرساء.
          كأن الخراب اختارني موطنًا. تنهال النيازك على أضلعي، لا كنجومٍ حالمة، بل كطعنة لا تنتهي. تتصادم مجرات الذكرى في داخلي، فينفجر الألم مرارًا دون هوادة. لم يعد قلبي يحتمل، ولم تعد دموعي تكفي.
          كنتُ تحت السماء، لكنني لم أكن أنتمي لها. كنتُ الأرض المنسية، الركن الذي تراكم عليه الغبار، وأنا فيه أحمل ذنوبًا لا تُغتفر، لمن كنتُ، ولمن تمنّيت أن أكون.
          وميضٌ غريب لمع في عينيّ، لم يكن ضوءًا، بل مرآة. رأيت فيها تلك الفتاة التي خدعت نفسها، التي ظنّت أن التغيير ممكن، وأن الطهر خيار. لكنّها... سقطت. لم تُغيّر نفسها إلا للأسوأ، وسلّمت قلبها للسواد حتى صار جزءًا منها.
          تقاتل في داخلي حروبٌ لا تهدأ، وتتنازعني ظلالٌ لا تُرحم. العذاب أصبح لغتي، والظلم وطنًا. وما أقسى أن تكتشف أن كلّ ما ظننته نقاءً، لم يكن سوى قناعٍ هشّ، سقط حين لمسته الحقيقة.
          وأفدح ما في الأمر؟ أنني ما زلت أبتسم أحيانًا، كأن شيئًا لم يكن، كأنّ الخواء في صدري لا يصرخ.
          

Rojina26

لم يكن ندائي صدى اسمٍ فقط، بل كان رجعَ ألمي، امتدادَ وجعي في هذا الكون الواسع. كل ذرة في صدري كانت تصرخ، وكل رعشة في جسدي كانت تلوّح برجاءٍ مكسور. كأنني أحاول أن أقتلع الصمت من الهواء، أن أفتح شقاً في هذا الفراغ ليمرّ منه صوتي إليك. لكن لا شيء كان يستجيب.
          دموعي سالت بحروفٍ لم تُكتب، تحاول أن تكتبك من جديد على وجهي، على تعابيري، على هذا الوجع الذي لم يخمد منذ رحيلك. كنت أبحث في كل نقطة ألم عن ملامحك، وكلما ظننت أنني اقتربت، تراجع كل شيء وتبدّد.
          كم مرة رفعت رأسي أبحث عنك في عيون العابرين؟ وكم مرة خبأت خيبتي بين صفحات كتبي، بين ضلوعي، كي لا أبدو أمام نفسي ضعيفة؟ ومع ذلك، كنت أعود إليك كمن يهوى السقوط في نفس الحفرة، لأنها الوحيدة التي تحمل دفء الذكرى.
          كنت الأصعب، نعم. كنت الغصة التي تسبق البكاء، واليد التي صفعتني ثم مسحت دمعي في اللحظة ذاتها. حضورك الموجع كان عزائي، وغيابك كان نهايتي المؤجلة.
          ذهبت إلى البحر، لا بحثًا عنك، بل لأن البحر وحده يشبهني حين أُحب. موجه لا يهدأ، عمقه قاتم، وصوته بكاءٌ لا يُسمع. حدّثته عنك، كأنك ما زلت تستحق هذا الحديث. قلت له إنك الفقدُ الذي لا يتعلّمه القلب، وإنني مهما حاولت، لا أنسى.
          رفعت بصري للسماء، صرختُ من أعماقي: "أيّها البعيد... لماذا لا تشتاق؟!"
          كل شيء يشتاق... الليل حين يطول، الغيم حين يمطر، حتى الجدران تحفظ صدى من عبرها. أما أنت؟ كأنك لا تعرف أن أحدهم احترق في انتظارك.

Rojina26

ناديتها... لا بصوتٍ، بل بروحي كلّها. خرج النداء من أعماقي مجروحًا، متشظّيًا، كأنّه آخر ما تبقّى لي من حياة. لم يكن الكون صاخبًا من حولي فحسب، بل كان داخلي أيضًا يضجّ، يتمزّق، يتهشّم تحت وطأة الغياب. دموعي لم تكن تبكيها فقط، بل تبكي احتمالات اللقاء التي كانت تُحتضر أمامي.
          كنت أعرف، في مكانٍ ما في داخلي، أن هذه اللحظة قد تكون الختام، أن انتظارًا طال عمره قد لا يثمر أبدًا. ومع ذلك... بقيت. بقيت لأنني لا أجيد الرحيل، ولأن قلبي، مهما جُرح، لا يُتقن إلّا العطاء.
          كنت أغفر، لا عن ضعف، بل عن محبّة كانت تسكنني رغم كل الألم. أغضّ الطرف عن الكلمات التي نثرتها كسكاكين، وأربّت على وجعي كأنني أعتذر منه. أحببتك بما يكفي لأصمت حين يجب أن أصرخ، ولأبقى حين كان المنطق يدفعني للهروب.
          رحلتَ، فأصبحت أركض نحو اللاشيء. وضعت ندائي في فم البحر، كأنني أرجوك أن تُولد من جديد في مكانٍ لا تصل إليه الذاكرة. كنتُ أبحث عنك في الموج، في الزبد، في نحيب الريح. كلّ شيء صار مرآةً لك... البحر يتلوّى كقلبي، والبرق يشهق مثل نحيبي، والسماء... كانت تبكي معي.
          كل شيء اشتاق. البحر، والشمس، والنجوم، حتى الليل الذي اعتادني، أصبح يسأل عنك بصمته الطويل. كل شيء اشتاق... إلا أنت.
          كنت مرّ قدري، والحنين الذي لا شفاء منه، والندبة التي لا أريد لها أن تُشفى.

Rojina26

عنوان مؤقت: "أنا… منسيّة وأنا أتنفس"
          أنا لا أبالغ حين أقول إنني ميتة.
          الميّت على الأقل يُغلق عينيه، يُدفن، يُنسى.
          أما أنا… فأعيش وأنا مكشوفة، ممددة في العراء،
          بلا حزن ظاهر، بلا دموع، بلا شيء.
          مجرد فراغ طويل، مسموم، وبارد.
          هل يمكنك أن تعيش وأنت تراقب نفسك تموت كل يوم؟
          أنا فعلت.
          وأنا أراقب… بصمت، بلا مقاومة، بلا حتى سؤال.
          كنت أظن أنني طفلة.
          لكن الحقيقة؟
          أنا لم أكن يومًا "طفلة".
          منذ أن رأيت أمي تنهار،
          منذ أن أصبحت الأعين عليّ،
          وأصبحت أنا "العاقلة"، "الكبيرة"، "اللي بتفهم".
          لم يسألني أحد إن كنتُ خائفة.
          لم يسألني أحد إن كنتُ أريد أن أكون هنا.
          كان يجب أن أكون موجودة، دائمًا.
          موجودة كجدار، كظل، كمجرد كائن يعرف ما عليه أن يفعله دون أن يُعلّمه أحد.
          كبرت، وكلما كبرت… تقلّص شيء داخلي.
          وصرت أجيد التمثيل.
          أضحك حين يضحكون.
          أهز رأسي حين يتحدثون.
          لكن لا شيء منهم يعنيني.
          كأنني روح غريبة وضائعة، وُضعت بالخطأ في هذا الجسد.
          أنا لا أكره أحدًا، لكنني لا أحب أحدًا أيضًا.
          لا أشتاق، لا أتوق، لا أرتبط.
          أشاهد انهيار الآخرين كما لو أنه فيلم تافه.
          لا أبكي، لا أنفعل.
          هل هذه قسوة؟
          أم أنها فقط ما يحدث عندما تتجمد مشاعرك منذ الطفولة؟
          يقولون لي: "خرجي، اضحكي، عيشي حياتك."
          أي حياة؟
          هل يشرب الميت القهوة؟
          هل يذهب الميت إلى حفلة؟
          هل يطلب من أحد أن يحبّه؟
          أنا لا أعيش.
          أنا فقط أعدّ الأيام،
          وأراقب جسدي وهو يقاوم السكون، رغم أن روحي…
          … انطفأت من زمان.
          أحيانًا أسمع أصواتًا في رأسي.
          أصوات تضحك، تهمس، تسخر، تبكي أحيانًا.
          وأعرف تمامًا أنها ليست "أصوات مجنونة"، بل بقاياي…
          أنا حين كنت أصرخ طلبًا للمساعدة،
          لكن لا أحد سمع،
          ولا أحد جاء.
          وها أنا الآن…
          أنظر من نوافذ الحياة، ولا أطرقها.
          أمشي في الشارع كخيال لا يراه أحد.
          وأبتسم في الصور، فقط لأذكّر العالم أنني… ما زلت أتقن الكذب.
          لكن الحقيقة الوحيدة؟
          أنني كنت ميتة منذ البداية،
          وكل ما فعلته… كان مجرد تأجيلٍ لدفني النهائي.
          

Rojina26

لم يعد يخاف الوحدة كما كان يفعل في البدايات. في طفولته، كانت الوحدة كوحشٍ يختبئ في زوايا الغرفة المظلمة، يفتح فمه ليبتلعه متى أُطفِئت الأنوار. أما الآن، وقد كبر وتهشّم بما يكفي، صارت الوحدة أشبه بظلٍ يرافقه أينما ذهب، لا يتركه حتى في حضور الآخرين.
          الوحدة لم تعد جدرانًا صامتة فقط، بل صارت لغة. يفهمها حين يسير في الشوارع المزدحمة، وحين يتبادل الكلمات الباردة مع الناس، وحين يعود إلى بيته، فيجد الصمت أشد ضجيجًا من أي مدينة. كانت الوحدة تعلّمه أن البشر يمكن أن يكونوا قريبين جدًا… وبعيدين جدًا في الوقت نفسه.
          في الليالي، حين يتمدد على سريره، لم يكن يسمع سوى دقات قلبه. أحيانًا كان يظن أن قلبه يطرق الباب من الداخل، يبحث عن رفيقٍ يفتح له. لكنه لا يجد أحدًا. الوحدة كانت مرآة، تجعله يواجه نفسه بلا أقنعة. وكلما نظر في تلك المرآة، وجد عينين متعبتين، وصوتًا داخليًا يسأله: "هل كنت يومًا جزءًا من العالم، أم أن العالم كله ظل بعيدًا عنك منذ البداية؟"
          ومع ذلك، كانت للوحدة وجه آخر، أقل قسوة. وجهٌ يشبه الهدوء، كأنها تمنحه مساحةً للتفكير، للتأمل، للكتابة. في لحظات نادرة، كان يشعر أن الوحدة ليست سجنًا، بل خلوة. وأنه حين يجلس في غرفته المظلمة، محاطًا بصمته، يكتشف شيئًا من ذاته لم يعرفه من قبل.
          ومع أن الوحدة علّمته الصبر، فإنها لم تنقذه من الفراغ. كان كل شيء يذوب داخله كملحٍ في ماء، لا يترك أثرًا سوى طعمٍ مرير على لسان روحه. الوحدة لم تكن موتًا، لكنها لم تكن حياة أيضًا. كانت مكانًا عالقًا بين الاثنين، فضاءً واسعًا لا حدود له، ومع ذلك يضيق عليه كقبر.
          وفي أعماقه، كان يعرف أن الوحدة لن ترحل. أنها ليست حالة مؤقتة، بل جزء من تكوينه، مثل ندبةٍ لا تزول. ولعل ما يخيفه حقًا ليس الوحدة ذاتها، بل اعتياده عليها. أن يتحول غياب الآخرين إلى راحة، وصمتهم إلى صديق، حتى لا يعود يتخيّل نفسه قادرًا على الحياة مع أحدٍ من جديد.
          
          

Rojina26

كان الليل يطوي المدينة كما يطوي كتابًا قديمًا لا يريد أحد أن يفتحه. خلف النوافذ المغلقة، وفي الغرف الضيقة، كان الناس ينامون، إلا هو. لم يعرف للنوم طريقًا منذ زمن، وكأن الأرق اختاره بيتًا دائمًا، يجرّ خلفه التفكير كظلٍّ ثقيل لا ينفكّ عنه.
          جلس على الكرسي الخشبي قرب النافذة، يراقب الفراغ أكثر مما يراقب الظلام. الوحدة لم تعد ضيفًا ثقيلًا؛ غدت مثل قطعة أثاث قديمة، يعتادها الجسد حتى يظن أنها جزء منه. لكن التفكير… التفكير لم يكن رحيمًا أبدًا. كان ينهش ليله بأسئلة لا تنتهي: لماذا الألم يلتصق بنا أكثر من الفرح؟ لماذا التعب يسكن في العظم أسرع مما يسكن فيه الدفء؟
          رفع رأسه نحو السقف، كأنه يبحث عن إجابة مكتوبة هناك. لم يجد سوى الصمت. الصمت الذي يزيد الألم وضوحًا، ويحوّل التعب إلى مرآة يرى فيها نفسه بوجهٍ شاحب وعينين مثقلتين بالسهَر.
          الأرق، في تلك الليالي الطويلة، لم يكن مجرد غياب للنوم، بل حضور طاغٍ لكل ما هرب منه في النهار: الندم، الذكريات، الخوف من الغد. كان الليلُ محكمةً، وهو المتهم الوحيد، بلا قاضٍ ولا شهود.
          ومع ذلك، في لحظةٍ غامضة، وسط الإنهاك والشرود، شعر أنه يكتب نفسه من جديد. أن الألم، مهما طال، يترك خلفه أثرًا، كالنار حين تحرق، لكنها تضيء الطريق أيضًا. 
          
          

Rojina26

التفكير لم يكن خيارًا بالنسبة له؛ كان قيدًا وُلد به، كعلامةٍ لا تُمحى. منذ صغره كان يغرق في الأسئلة التي يتجاهلها الآخرون بسهولة: لماذا يبتسم الناس في وجه بعضهم رغم ما يخفونه؟ لماذا يتكرر الألم كأنه قانون طبيعي؟ لماذا يمرّ الزمن بسرعة حين نضحك، وببطء حين نحزن؟
          كبرت الأسئلة معه، وكبر معها الصمت الذي يحيط به. كان عقله أشبه بنهرٍ لا يعرف التوقف، يجرّ معه كل ما يراه ويسمعه ويشعر به. لم يكن يستطيع أن يغلق التدفق. كل فكرة صغيرة تتحول إلى غابة، وكل ذكرى تافهة تصبح جبلًا يقف أمامه طويلًا.
          في النهار، كان يخفي ضجيج رأسه بابتسامةٍ متقنة، وكلمات قصيرة لا تفضح ما يدور بداخله. لكنه في الليل، حين يسقط القناع من تلقاء نفسه، كان يجد نفسه أمام عاصفةٍ من الأفكار، تتزاحم وتتقاتل، حتى يصعب عليه أن يميّز بينها. هل ما يفكر فيه حدث فعلًا، أم أنه مجرّد صورة من الذاكرة تكررت حتى صارت حقيقة مزيفة؟
          التفكير لم يكن مجرد تحليلٍ للواقع؛ كان استنزافًا بطيئًا. كان يشعر أحيانًا أن عقله يستهلكه أكثر مما يستهلكه التعب الجسدي. وأن أكثر ما يؤذيه ليس الجواب الغائب، بل السؤال المستمر. الأسئلة التي تتناسل من بعضها ككائناتٍ لا تموت.
          كان يحسد أولئك الذين يفكرون بسطحية، الذين ينامون بسهولة بعد يومٍ طويل. أما هو، فكان يسهر حتى الفجر، محاصرًا بأفكاره التي لا تعرف النوم. التفكير بالنسبة له لم يكن مصباحًا يضيء الطريق، بل شعلةً تحرقه من الداخل. ومع ذلك، لم يستطع إطفاءها. كان يخشى أن ينطفئ عقله يومًا، فيفقد ذاته كلها.
          أحيانًا كان يتساءل: لو أُعطي زرًا يوقف هذا الضجيج الداخلي، هل سيضغطه؟ كان يخاف من الجواب. فحتى لو كان التفكير لعنة، فهو أيضًا هويته الوحيدة. من دون أفكاره، من يكون؟ مجرد جسدٍ فارغ يمشي بين الناس؟
          في لحظات الصداع الحادة، حين يتشابك التفكير مع الألم، كان يشعر أنه يتفتت من الداخل. الزمن يذوب أمامه كشمعةٍ تذرف ضوءها الأخير. ومع ذلك، كان هناك دائمًا جزء صغير منه يرفض الاستسلام، كأنه يقول: التفكير، رغم قسوته، هو الدليل الوحيد على أنني ما زلت حيًّا.
          هكذا عاش بين حدّين متناقضين: أن يفكر حتى يتألم، أو يتوقف عن التفكير فيموت معنويًا. لم يعرف طريقًا ثالثًا. وكان هذا الصراع هو قدره الذي لم يختره، لكنه التصق به كما يلتصق الظل بالجسد.
          

Rojina26

          الألم ليس مجرد وخز في الجسد، بل ذاكرة كاملة. كل وجع يترك أثرًا لا يزول، كندبةٍ محفورة في الداخل. لم يكن الألم بالنسبة له حدثًا عابرًا، بل هوية خفية تسكن تحت جلده. كان يتساءل أحيانًا: هل نحن من نحمل الألم، أم أن الألم هو الذي يحملنا ويمشي بنا؟
          هناك آلام يعرفها الجميع: جرح في اليد، صداع ثقيل، تعب يومٍ طويل. لكنها لم تكن تؤلمه بقدر ما كان يؤلمه الصمت الذي يتبعها. الألم الأشد، ذاك الذي لا يُرى ولا يُسمع، هو الذي يزرع نفسه في الروح، ويستيقظ مع كل نفسٍ نأخذه.
          كان يعيش مع الألم كأنه رفيقٌ دائم. يتبعه في اليقظة، ويزوره في النوم على شكل كوابيس غامضة. كان الألم يتجسد في تفاصيل صغيرة: في نبرة صوتٍ كسيرة، في كرسي فارغ على المائدة، في رسالة لم تصل. وكأنه يقول له: "لن أنسى أنني هنا، معك، حتى حين تنسى أنت نفسك."
          في لحظات الصمت الطويلة، كان يضع يده على صدره، كأنه يبحث عن مكان الألم بالضبط. لكنه لم يجده أبدًا. لأن الألم لم يكن في مكان واحد. كان منتشرًا، يملأ المسافة بين الفكر والذاكرة، بين الحاضر والماضي، بين ما يريد أن يكون وما اضطر أن يصبح.
          ومع كل ذلك، كان الألم يعلّمه. علّمه أن القلب هشّ، لكنه قادر على النهوض. وعلّمه أن الجروح، مهما طالت، قد تصبح في يومٍ ما لغة نفهم بها أنفسنا والآخرين. الألم لم يكن عدوًا تمامًا، بل كان أستاذًا قاسيًا، يدرّب روحه على أن تتحمّل أكثر مما تظن.
          

Rojina26

الأرق لم يكن غيابًا للنوم فقط. كان حضورًا لكل ما لا تريد مواجهته. في الليل، حين تهدأ المدينة ويسكن كل شيء، كان عقلها يستيقظ كغابةٍ مليئة بالضوضاء. الأرق كان مرآةً ك cruel يعكس لها كل خوفٍ دفنتها في النهار، ويعيد لها كل ذكرى حاولت نسيانها.
          على سريرها ، كانت تتقلّب كمن يبحث عن مكانٍ لا وجود له. الوسادة ليست مريحة، الغطاء ثقيل، الغرفة خانقة… لكنها كانت تعرف أن المشكلة ليست في الخارج. المشكلة كلها في الداخل. في ذلك العقل الذي لا يتوقف عن الثرثرة.
          كانت تسمع أصواتًا وهمية: صوت ضحكةٍ قديمة، صوت بابٍ يُغلق، صوت نفسها وهي تسألها: "إلى متى ستظلين هكذا؟" وكلما حاولت أن تهرب من التفكير، ازداد تشابك الأفكار. الأرق كان مثل شبكة عنكبوت، كلما حاولت التخلّص منها، ازداد التصاقًا بها.
          ومع مرور الوقت، لم يعد الأرق غريبًا. صار شريكًا صامتًا للّيل. كانت تجلس معها وجهًا لوجه، تتبادلان الصمت كما تتبادل اثنان الكلام. الأرق علّمها أن الليل أطول بكثير مما يظن الناس. وأن الدقائق فيه يمكن أن تصبح ساعات، والساعات يمكن أن تصبح دهورًا.
          لكن الأرق، رغم قسوته، منحها شيئًا لم يمنحه النهار: الصفاء. ففي تلك اللحظات الممدودة بين النوم واليقظة، كانت تكتب، تفكر، تواجه نفسها بلا تزييف. وربما، في مكانٍ ما، كان الأرق يقول لها: "أنا عذابكي… لكنني أيضًا نافذتكِ إلى أعماقكِ."
          

Rojina26

التعب لم يكن جسديًا فقط؛ كان تعبًا يسكن في أعماقها، تتسرّب إلى روحها كما يتسرّب الغبار إلى الكتب القديمة. جسدها كانت تستطيع أن تستريح بنومٍ قصير أو طعامٍ دافئ، لكن روحها لم تعرف الراحة منذ زمن.
          كان تعيش وكأن كل يومٍ هو جبل تصعدها ببطء، وكل خطوة أثقل من التي تسبقها. التعب لم يكن نتيجة ما تفعلها، بل نتيجة ما تحملها في داخلها: أفكار لا تهدأ، مشاعر لا تجد مخرجًا، خوف يلتصق بها كظلها.
          في وجهها ، كان التعب يُرى بوضوح: في العيون الغائرة، في الكتف المنحني، في ابتسامة باهتة لا تقنع أحدًا. لكنها كانت تعرف أن التعب الأخطر هو ذاك الذي لا يظهر. التعب الذي يجعل الروح كطفلة تبكي بصمت في ركنٍ مظلم.
          كثيرًا ما كانت تتمنى لو تستطيع أن تستلقي على الأرض، أن تترك جسدها مستسلمًا بلا حركة، أن تنسى كل شيء للحظة. لكن التعب لم يكن يتركها حتى حين تستلقي. كان يلاحقها إلى النوم، يثقل عليها كالحجر، حتى تفيق منها أكثر إنهاكًا مما كانت
          التعب المستمر حوّلها إلى غريبة عن نفسها. لم تعد تعرف إن كانت تواصل الحياة بدافع حقيقي، أم بدافع العادة فقط. لكنها مع ذلك، كانت تتقدّم. ربما ببطء، وربما بانكسار، لكنها لم تتوقف. كانت في داخلها خيط رفيع من الإصرار، خيط بالكاد يُرى، لكنها موجوده ، يشدّها نحو الغد رغم كل ما يثقل عليها.