جُوناثِن رُومَانوف

لا اعي من انا وعلّي لم اعي يومًا.
          احدق بسقف غرفتي مجددًا، بعثرة الاوراق من حولي، بعثرة ملابسي، بعثرة جُلي. لم يكن اي منها يشبهني. لم اكن أشبهني. لم اكن انا. ملامحي مهترئة كما دواخلي، واقول انني تغيرت، اي تغير به اهذي؛ فالهراء هرائي، والفراغ فراغي. هذا انا جوناثن، انا واطباعي السيئة، ومزاجي الحاد، اعيني الخاوية، وحيادي عن طريقي. وجدت طريقي لكنني تركته. لم احتمل الاستقامة. الهراء يملؤني لاقصى قدمي. لكنني استمر باختياره.

ها انا مُجددًا أَقف على الحافة، بجوٍ يُغطيه الدخان المتصاعد من سجائري، حيرتي بأمري، خصلاتي التي عادت للونها البني الفاتح، والأسود الذي لا يزال يشكل ملبسي، الأضطراب يسحق دواخلي، وكوب القهوة المشارف على الإنتهاء يعلو منضدتي، آثار الأرق تُغطي مَلمحي، والرغبة بالرحيل لازالت تَكسوا أيسري.
          
          

لم يكن يملأني الحُب او تكسوني المُحبة، لقد كنت كارهًا للآخرين تُغرقني الغبطة للقياهم.
          ثم استوقفني سؤالي لذاتي أحقًا انني كاره للآخرين؟ ام اني اخشى الحُب والمحبة، اخشى ان تكسوني الرقة فألين، وانكسر، اندثر، فأغرق مُجددًا بالهاوية، الستُ غارقًا بها مُنذ الأزل؟ ما بالي أُراجع قراري بالخواء، أهو ما يُبقيني بالهاوية، ربما ليس التحليق ولا الغرق هما الحل، ربما السلام والإستسلام هما الحل؟

بعيدًا عن ذاتي، وقريبًا منهم، لأ أعيني، وأَعيهم، أُجيدهم، اتقنهم، واحفظهم شدة الحفظ -ويحاولون العبث بِرفقتي- الأمر مُثير للسخرية.

إن المنطق يدعو للامنطقية.

قَبلني بشدة قَبل أن تذهب، قبلني حتى أشعر أن شفاهنا نُسجت ببعضها فأضحت واحدة، قبلني حتى غروب شمس الشتاء، وشروق شمس الصيف، قبلني ودعنا نتشارك الحب، قبلني ودعنا نتشارك بعضنا كما إعتدنا أن نفعل، قبلني وأحييني، أو قبلني وأميتني، قبلني فقط إفعل.

أُجيد قَول الهِراء كثيرًا.

مَيت لا مُحالة.
          
          لقد أخبرني بذلك، أخبرني أن الموسيقى تَدعوه لِقتل ذاته، فَتعجبت، فتحدث بِنبرة غليظة قائلًا" الموسيقى أخبرتني أن الإنتحار هوَ الخَلاص، لكنني أرفُض الخضوع لأفكار الموسيقى، فلا أُريد أن تَكُن آخر ذِكرياتي في هذا العالم البائس مَنظر جِلدي المُمزق، او شراييني النازفة".
          
          ولَم تَكُن تُبكيه الموسيقى، بَل كان يَبكي الموسيقى، كان تَساقط دموعه يَخلق مَعزوفة فَريدة لَيس قادرًا على سَماعِها او الشعور بِتفاصيلها عِداه.
          
          لكن عِندما لَقيته مُجددًا، كان قد تَوقف عن الإستماع لمعزوفاته، وكانت قد توقفت أفكار الموسيقى عن مُداهمته؛ هوَ قَد فارق الحياة، قد فارقها كيانيًا وليس جسديًا، لَقد رأيت الفراغ في عَينيه، وكانت قَد تَشبعت روحه بالخواء، لَقد بدى لي كَجُثة، وكان حَقًا واحِدة.
          
          

لوقتٍ طويل كُنت اظن ان إكتشاف المُشكلة هو نصف الحل، وهو إنجلاء المعاناة، لكن بعد ذلك إتضح انه اكتشاف المشكلة هو المعاناة الحقيقية، وانه يكاد يُشكل نسبة قليلة من الحل؛ فعندما تكتشف المشكلة، ستغرق بهراء متى حدثت، ومما حدثت، ولما حدثت لي وذلك سيخلق مُشكلة أُخرى جديدة.
          ستجد انك هَويت بالقاع اعمق، وانه انتشالك لذاتك اصبح مُقلق اكثر، فتتخبط بظنك ان العلاج هو الحل، ثم تتشتت دواخلك فتخبرك ان الغرق هو الحل، ولكن لما الغرق، ربما التحليق هو الحل؟ لا احد يُدرك ما يجري اساسًا فكيف لي ان ادرك انا ما هو الحل.
          لربما لا يوجد هنالك حل اساسًا، ايقال هذا مصيري؟ ان أُعاني من اكثر ما بغضت؟ هذا مصير الإنسان يُبتلى بما يبغض، لكن ثم أُشتت مُجددًا، هل حقًا انا إنسان؟ او أُشكل شَيءً ماديًا ملموسًا ومحسوسًا، لطالما شعرت اني العدم، لطالما شعرت انه لا يوجد انا اساسًا، فلما يوجد مشكلة؟ وانه لا يوجد انا فكيف سيوجد مشكلة وسيكن لها حل؟ افكاري تدعوني لتقيؤ ذاتي.

لَم أعُد أجدني، لا بحديثي ولا بأفعالي ولا بسجائري حتى، احتى انا موجود فعلًا؟ لا أظُن ذلك؛ فأني بقيت اعتنق مبادئ لاتناسبني حتى لم أعد ادرك ما يُناسبني حقًا، غدوت انا هم وغدوا هم انا، غدوت لست انا وهم لم يغدوا ذواتهم.