في أعماق الروح، حيث يسكن الصمت وتلعب الأفكار على أطراف القلب، يقف الإنسان بين أمل وحيرة، يتساءل عن معنى وجوده. متى يشعر أنه حقاً على قيد الحياة؟ في خضم الحياة، تتشابك الأيام بعضها ببعض، يضيع الزمن في غياهب الانشغال والمشاغل، فيظن المرء أن الحياة قد غادرته، وأنه عابر في عالم لا يجد فيه نفسه. ولكن في تلك اللحظة التي تلتقط فيها الأنفاس، تجد فجأة أن الحياة لا تعني مجرد الزمن الذي يمضي، بل تلك اللحظات التي نغرق فيها في حقيقة أنفسنا.
هكذا، وفي لحظة يقظة مفاجئة، يدرك القلب أن الحياة ليست في الهدوء الذي يبحث عنه، بل في الشجاعة التي تدفعنا نحو الأمام، رغم الألم والعثرات. في تلك اللحظة التي تتفتح فيها الأعين على العالم بأسره، ويشعر الإنسان بكامل وجوده، فيعرف أن الحياة لا تكمن في الانتصارات الكبرى، بل في قدرتنا على أن نعيش كل لحظة بكل مشاعرنا، بكل قوتنا، بكل ضعفنا، وأيضاً بكل عزيمتنا.
حينها فقط، يدرك الإنسان أنه عاش حقاً، عاش بكل ما أوتي من قوة وحب وألم، أن كل تلك اللحظات كانت جزءاً من رحلته نحو نفسه، وأن الحياة كانت تنتظره ليعيشها بصدق ووعي.
كانت الأضواء الخافتة في الغرفة تلمع باهتة، كأنها انعكاس لشعوره المتعب. كل شيء حوله بدا وكأنه يثقل عليه، حتى الهواء الذي يتنفسه صار كثيفًا، يتطلب جهدًا ليملأ رئتيه. عيناه مرهقتان، لا تقويان على التركيز، وكأنهما تصرخان للراحة.
جلده المتعب يعكس كل دقيقة من الإرهاق، كل نبضة قلبه تحمل في طياتها ساعات من العمل والهموم المتراكمة. جسده متيبس، وكأن عضلاته ترفض الاستجابة، كما لو أن الإرهاق قد ترسخ في عمق أعماقه، يغرس جذوره في كل خلية. حاول أن يجد بعض الراحة في الجلوس، ولكن حتى الكرسي أصبح شاقًا، كما لو أنه فقد القدرة على منح الراحة.
كل صوت، كل حركة، بدت وكأنها تزيد ثقله. حتى الأفكار في ذهنه كانت تجر خطواتها ببطء، مترنحة بين وعيه وغفلته، غير قادرة على الانتظام أو الإتمام.
في لحظة عابرة، اجتاحتني رغبة طاغية بالرحيل. كأنني فجأةً أريد أن أترك كل شيء خلفي، أن أتركه كما هو، دون لمس، دون ترتيب، للأبد. كانت تلك اللحظة بمثابة نداءٍ داخلي، صامت لكنه صاخب في أعماقي، يدعوني للانسحاب، للهروب من كل ما يحيط بي، وكأن الحياة نفسها تتوقف عند هذا القرار. لم يكن هناك سبب واضح، فقط شعور عارم بأن البقاء قد أصبح عبئًا، وأن الرحيل هو الحرية التي لا تُدرك.
هي فتنة عابرة في عالمه، تفاصيلها تُضيء العتمة حوله. كلما نظرت إليه، كان يشعر بتيار خفي يمر بينهما، كأن الهواء يحمل شيئًا من حديث الأرواح. ابتسامتها، تلك التي تتفتح كزهرة في لحظات اللقاء، تحمل في طياتها ما لا تقدر الكلمات على وصفه. قلبها يتحدث بصمت لا يدركه سوى من يقترب منه. حضورها يشبه النبض الذي يملأ الفضاء من حوله، ولا يمكن تجاهله. تُراقب خطواته، وتفاصيل وجهه، كأنها تحفظها عن ظهر قلب. كل لحظة تجمعهما تغزل خيوطًا من أمانٍ هشّ، تخشى أن ينفلت من بين أصابعها. في أعماقها، صدى خوفٍ لا تعرف له بداية ولا نهاية، شعور ثقيل كظلٍ لا يفارقها. تحاول تجاهله، تتشبث بالحاضر بكل قوتها، تملأ اللحظات بحبٍ لا يُحصى، لعلّها بذلك تُبقي هذا الشعور بعيدًا، ولو للحظة أخرى.
02:22
في لحظات الجوع القاحل، أجد نفسي محاطة بنبضات الجوع التي تعود بلا رحمة، فأكلي يعود كالسراب الذي يتلاشى بمجرد لمحته. ينغمس ضرسي في وجع قاتل، يزيد صداعي النصفي بتورم يعكر صفو النفس. أجد نفسي مُخنقة بأناقيد اليأس، ويتسلل الاكتئاب إلى كل زاوية من روحي.
ومع ذلك، في تلك اللحظات الحاسمة، أقرر صبّ القهوة، وإشعال أي شيء آخر من حولي لأعيد نفسي إلى الاستقرار، لأجل الجلوس والدراسة. فلماذا هذا التصرف المتكرر؟ لأنني أدرك تمامًا أن هذه الحالة ليست بحلاً، إنما هي مجرد عراقيل تحتاج إلى تخطيها بسلام، لأنني لست أرغب فقط في الانتهاء من المهمة، بل في إتمامها بفخر ورضا داخلي.