”كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة“ ابن عربي
أعطاني الله برزخين: برزخٌ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني. رأيت أبي يضحك مستبشراً ببكره الذكر وزوجتي تبكي مفجوعةً في زوجها المسنّ. رأيت فتيل دولة المرابطين يطفئه الموحّدون في مرسيّة قبل ولادتي، ورأيت التتر يدكّون بغداد دكاً دكاً بعد مماتي. رأيت الأولياء يستبشرون بمولد سلطان العارفين والفقهاء يكبّرون لهلاك إمام المتزندقين. رأيت كل هذا بكشف الله الأعمّ ونوره الأسنى في سنواتٍ قليلة من برزخين. فانكشفت لي سرعة عبوري وضرورة فنائي في هذا العمر الذي ليس سوى محض سطرٍ في رسالته الإلهية، لمعة شهابٍ في سمائه العلوية، أثر خفٍّ في أرضه الواسعة. وانتهى برزخي الأول في رمضان عندما شعرت أمي بآلام الوضع. اعتصرت يداها طرفَي الفراش وابتهل فمها إلى الله أن يجعل مولودها ذكراً ومخاضه سهلاً. مسحت فاطمة عن جبينها عرق الولادة وعن قلبها قوارض الخوف. ولما ولدتُ أخيراً كان وجه هذه القابلة الطيبة أول وجهٍ أراه في بداية الحياة. قارنته بآلاف الوجوه التي رأيتها في برزخي، آلاف الأولياء، آلاف الأتقياء، وآلاف الزهّاد، وكان وجهها أوسع رحمةً وهو حقيقة ماثلة أمامي. غشي على أمي فور ولادتي فلم يتسنَّ لفاطمة أن تضعني على صدرها كما يفعلون، فغسلتني وكفلتني وراحت تمسح على وجهي كما تفعل الأمهات فتعلّق قلبي بها التعلّق الأول. وهي أيضاً اتّخذتني ابناً روحياً لها مذ حطّت عيناها على وجهي وغمرتني بحنانها الجارف الذي كان عزائي الأول في فراق برزخي وزادي في ابتداء رحلتي. ما أوجع أن تفارق البرزخ الذي كلّه كشفٌ في كشف لتدخل الدنيا التي كلّها جهلٌ في جهل. من برزخ الحقيقة إلى عالم الشبهات..
ابن عربي || موت صغير