لأنها ضيزى

590 67 634
                                    

«أتقبلين يا ابنتي أن تُصبحي زوجةً له؟ »
«أقبل».

كان بمقدورِ كلمةٍ واحدةٍ من ثغرِها الباسم أن ترفعني لسابع سماء، أن تجعلني أراقصُ الغيوم وأن تستحوذ على عقلي وقلبي في آن، أكملنا إجراءات الزّواج وأنا مغيبٌ عن الوعي، أكاد لا أصدق بأن حُلم الطّفولة بات واقعًا أحياه، وأنّ قلبينا سيتآلفان من بعد طول إنتظار .

إتحد مرفقانا أثناء سيرنا برزانة وكأننا نُخبر العالم بأننا لا نحتاجُ أحدًا سوانا؛ فإن بكت سأكون الكَتف الّذي تتكئ عليه وإن جُرِحت ستكون ضمادي، الكثير من التّهاني والتّبريكات هنا وهناك بالإضافةِ إلى وابل من القُبلات والدّعاء بالذّرية الصّالحة.

توقفتْ عن المسير ففعلتُ المثل ثمَّ التفتُ إليها حين تساءلتْ«أستبقى معي؟ » لم أستطع كبح ضحكاتي حين قلت:«حتى نشيخ».

كانتْ تطرح السّؤال ذاتهُ دائمًا ولم أكن أمَّل الإجابة بدوري، لكنها استوقفتني مرةً أخرى مستفسرة:«للأبد؟ »
«للأبد».

كنتُ أعتقد أن الدّقائق تحبو كطفلٍ رضيع كي نستمتع بكلِّ لحظةٍ في هذا اليوم الإستثنائي، في حين كانت العقارب خجلةً من المُضي قُدمًا خوفًا من اللحظات الآتية.

تفاجأتُ كما الجميع إذ بدأت السّماء تُمطر بطريقة مروِّعة، أوكيف تمطر ونحن في أيار؟

المطر كان مختلفًا هذا العام، كان من الرّصاص والبارود على غير العادة، أصواتُ الصّياح والنّحيب بقوة الصّاعقة، ورائحة الدّماء تَمْلأُ الأجواء عِوضًا عن الرّائحة التّرابية الّتي أشتاقها.

هَلِع الجميع وكنتُ منهم، بدأنا الرّكض على غير هدى، نعدو ونعدو وصراخنا مازال مستمرًا، أخذتْ البنايات تنهمر و تتداعى فوق رؤوسنا كما تنهمر الجحافل بتدرجاتِها الخريفية إثر نسماتٍ خفيفة، لم نتوقفْ بل على العكس أصبحنا نرتطم ببعضنا وندفع بعضنا الآخر أرضًا، نُصارع بالأيدي والمناكب طلبًا للنجاة لعلَّنا ندركها.

من يرانا للوهلةِ الأولى سيشعر بأن يوم الحشر قد جاء بجبروتهِ وهيبتهِ مُرحبا لا محالة، كنتُ أرتعد من الخوف لكنني لم استسلم كما فعل الكثيرون غيري .

فُتِحتْ الأبواب، هرول السّكان إلى الشّارع العام زرافاتٍ وَوحدانا وأخذوا يتلاطمون كأمواج المحيط، اندلعت الحرائق وبدأت تنهب كلّ ما تطولهُ بيدها السّليطة، تأكلُ بنهم و جشع كأنها لم ترَ طعامًا قط، الغازات بدأت تخترق أعيننا، وقصباتنا الهوائية تلفظ أنفاسها الأخيرة.

لا أعلم ما الّذي حدث، كلّ شيءٍ طُمس من ذاكرتي في التّو واللحظة، والدتي، أقربائي وزوجتي، لكن سرعان ما تدافعت الذّكريات ما بين تلافيف دماغي المشوش فور أن سمعتُ عويلها.

عدتُ أدراجي باحثًا عن مصدرِ صوتها، كانت مهمةً شِبه مستحيلة، أتقدم خطوةً فيعيدونني عشرًا، أزيز الطّائرات الحربية الّتي بدأت بإثلاج القنابل فوقنا طغى على صوتها مما صعب المهمةَ أكثر ولكنّني رأيتها نهاية.

 لأنها ضيزىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن