قُسْطَنْطِين

47 3 0
                                    

.
.
.
.
.
تُوفِّيت زوجة الأمير برانكومير منذ عامين، وكانت امرأةً من النساء الصَّالحات القانتات ذوات النفوس العالية والهمم الكبرى، فورث ابنها قسطنطين عنها هذه الأخلاق الكريمة، كما ورث عن أبيه صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمَّة، فكان خير ابن لخير أبٍ وأمٍّ، وكان يدَ أبيه اليمنى ودِرْعه الواقية الأمينة في جميع وقائعه ومشاهده، حتى ذاع صيته في جميع أنحاء المملكة، وأحبَّه الشعب والجند حُبًّا كاد يرفعه إلى ما فوق منزلة أبيه، لولا حرمة الأبوة وجلال الشيخوخة ومكان التاريخ، فلما ماتت أمُّه تزوج أبوه من بعدها فتاةً يونانية اسمها بازيليد، يقال: إنها من سلالة قياصرة بيزنطية «القسطنطينية».

وهي فتاةٌ جميلةٌ ساحرةٌ تستهوي القلوب وتختلب الألباب، ذاتُ نظراتٍ غريبةٍ لامعةٍ يقضي المُتفرِّس فيها حين يراها أنها نظراتٌ مريبةٌ ألفت الاختِلاب والافتتان من عهدٍ بعيد، فنزلت من قلب القائد الشيخ منزلةً لم ينزلها منه أحدٌ من قبلها ولا من بعدها، حتى زوجته الصالحة وولده النجيب، فأصبح مُستَهامًا بها، مُسْتَسلمًا إليها، لا يصدع إلَّا بأمرها، ولا يَصدُر إلا عن رأيها، ولا يرى حُلو العيش وجماله إلا بجانبها، ولا يستروح رائحة السعادة والهناء إلا إذا هبَّت عليه من ناحيتها.

وكانت امرأةً طموحًا متطلعةً لا يعنيها من شئون حياتها إلا مظاهر السُّؤدد والعظمة، ولا يغلب على مشاعرها وعواطفها إلا ذكرى تاريخ آبائها وأجدادها، ومصارع قومها في «بيزنطيَّة» بيد الأتراك الفاتحين، وكانت لا تزال تتحدَّث في مجالسها العامَّة والخاصة بنبوءةٍ قديمة تنبَّأ لها بها بعض المُتنبِّئين، ومجملُها أن كاهنًا عرَّافًا دخل منزل أبيها وهي طفلةٌ لعوبٌ لا تزال تحوم حول مهدها، فنظر إليها طويلًا ثم قال لأمها: إن ابنتك هذه ستكون ملكةً عظيمة الشأن في مستقبل أيامها. وربما كان اهتمامها بهذه النبوءة واحتفالها بها وتصديقها إياها هو السبب في قبُولها الزواج من شيخٍ هرمٍ مُدْبر قلما يُعنَى بمثله مثلُها، على أمل أن تحقق لها الأيام على يديه آمالها وأمانيها.

فظلَّت تغرس في نفسه هذه الأمنية الجميلة المحبوبة مدةً من الزمان، وتسقيها بماء حسنها وجمالها، حتى ملأت بها فضاء قلبه، وشغلته بها عن كُلِّ شاغلٍ سواها.

ولم يزل هذا شأنها معه حتى مات الملك ميلوش، وجاءت السَّاعة التي تنتظرها، فهتفت به: ها قد حانت الفرصة التي كنا نرقُبُها، وها قد بدأت تتحقق نبوءة ذلك العراف الخبير التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المتخرِّص. ثم زجَّت به في طريق مزاحمة الأسقف أتين على المُلْك، فانقاد لها ومشى في الطريق التي رسمتها له، وأخذ يدعو الناس لنفسه، ويستكثر من سواد أشياعه وأنصاره، ويُداخل أعضاء الجمعية الوطنية ويُداهنهم ويتوسَّل إليهم أن يساعدوه على نيل أمنيته التي يرجوها، مُدلًّا بمكانته من خدمة الأمة والوطن، وأياديه في الذود عنهما، وبما بذل من صحته وشبابه في مقاتلة الأعداء ومدافعتهم تلك السنين الطوال حتى اشتعل رأسه شيبًا، ولمست قدماه رأس المنحدر المؤدِّي إلى القبر.

فِى سَبِيلِ التَّاجِ 🥀🍂حيث تعيش القصص. اكتشف الآن