المشهد السابع

731 55 2
                                    

طوال طريق عودتها للمنزل, وهي متجهمة الملامح, تجلس بالسيارة بالمقعد المجاور له,
وبالخلف يقبع الصغير "يزّن" كما أخبرها خورشيد باسمه, بعربة الأطفال الخاصة, والتي وجدا أنها تتحول لكرسي خاص للسيارة أيضًا..
تهز ساقها بعصبية دون حديث, وهو يرمقها كل دقيقة بطرف عينه, محاولاً عدم استفزازها؛ كي لا تُلقي إليه الصغير,
لكن لم يستطع الصمت أكثر, فعاد يرجوها:" يا بُشرى فُكيها.. مانا مش هقدر آخده معايا دلوقتي.. أنا حتى مش هعرف أحضرله الرضعة.."
التفتت إليه بجسدها بحركة حادة, تهتف بوجهه بعصبية:" تقوم إيه.. ترميه عليا.. عادتك ولا هتشتريها!.."
ابتسم بوجهها باستعطاف, مع قوله المُمازح:" إنتِ الخير والبركة بُشرى.."
نظرت إليه بتهكم, مرددة بسخرية:" دلوقتي بقيت بُشرى.. والخير والبركة!.."
زفرت بقوة, مردفة بتنبيه:" خورشيد.. يومين ترتب أمورك وتاخده.. كفاية اللي هتقوله ماما وأنا داخلة بيه.. ربنا يستر.."
هادنها بهزة رأس, قائلاً:" ان شاء الله.."
حتى وصلا أسفل المنزل, فهبطت وهو معها, يلتف للباب الخلفي, يفتحه, مُخرجًا يزّن بعربته, يتحرك به لداخل البناية, يضعه معها بالمصعد, ثم يهرول,
ليُحضر باقي أغراضه, المتمثلة بحقيبة ملابس كان قد مر على شقته وأحضرها, وعُلبة الحفاضات واللبن, ليعود ويضعهم بالمصعد, يمسك ببابه,
مبتسمًا بسماجة قائلاً:" خلي بالك منه.."
فيرى احتقان وجهها بغضبها, تكاد تنفجر؛ لكنه أسرع يُغلق باب المصعد عليها, هاربًا من أمامها,
وهي تقول بوجه باكِ:" منك لله.."
ما إن وصل المصعد لطابق شقتهم, حتى فتحت بابه بقوة, تُخرج الأغراض تباعًا, وبعدها الصغير, تغلقه خلفها, بإحكام,
فلا تريد لأحد أن يهتف " اقفلوا باب الاسانسيييييير"
لكن ما إن تحركت خطوتين, حتى وجدت من يهتف خلفها:" مين ده يا بُشرى؟..
وسؤال جارتها الفضولي؛ جعلها تشتم من بين شفتيها المزمومتين بصمت,
قبل أن تلتفت لها, مبتسمة بسماجة, تُجيبها بأول فكرة طرأت على بالها:" ابن واحدة صاحبتي يا طنط.. بعيد عنك جالها كورونا هي وجوزها, فجبت الواد يقعد عندنا.."
وحين سمعت جارتها المرض؛ انتفضت تتراجع عنها أمتار,
هاتفة بهلع :" كورونا يا لهوي.. وجيباه هنا ليه؟.. يعني إنتِ كنتِ عندهم!.."
_ايوه أخدته منها قبل ما ياخدوهم العزل..
_طيب طيب..
مشيحة بيدها وكأنها تصرف عنها عفريت مهرولة للأسفل؛
وبُشرى تبتسم بانتصار سعيد فجارتهم الفضولية, ستقطع زياراتها المتعددة لهم, لمدة لا بأس بها, وسترتاح منها..
أكملت طريقها لباب الشقة, تفتحه بهدوء, تأخذ نفسًا عميقًا تزفره بروية, متوجسة من رد فعل والدتها,
والتي كعادتها ما إن سمعت صوت المفتاح يدور بالباب, حتى أسرعت تستقبلها بالمُعقمات الضرورية, قبل دخول الشقة..
لكنها توقفت بمنتصف الطريق, وهي ترى ما بيد بُشرى,
تسألها بعينين مستفهمتين:" إيه ده؟.."
ثبتت بُشرى عربة الصغير, قبل أن تلتفت لوالدتها, تجيبها:" ده قريب خورشيد, وهيقعد معانا يومين لحد ما يرتب أموره.."
سقطت عبوة المطهر من يد والدتها أرضًا, وهي تضرب بيدها على صدرها, هاتفة بنبرة مفجوعة:" دخلالي بعيل البيت!.. يا مصيبتي السودة.."
ضحكت بسخافة, وهي ترد عليها مُمازحة:" اهو تغيير يا ماما.."
ونبرتها السمجة بمزاحها؛ كادت أن تنال بسببها مدفع على هيئة حذاء بوجهها،
ووالدتها تهتف بعصبية:" بتستهبلي؟.. عيل يا بُشرى.. ابن مين ده يا بت؟.."
إلا أن شقيقها وصل على صوت والدته, يتقدم اتجاههما, يتطلع للموقف,
ثم انحنى ينظر بتدقيق للصغير، قبل أن يعتدل مُمسكًا وجه شقيقته بيده يقلبه بكلا الاتجاهين بفظاظة،
قائلاً بنفي وهو يغمز بعينه:" لا متقلقيش.. السحنة العكرة بتاعة بنتك دي, متجبش النضافة الأجنبي دي.."
أبعدت يد شقيقها عن وجهها بقوة, ناظرة إليه بقرف, قائلة:" مش ناقصة ظرافة أهلك.. كله من مصايب صاحبك.."
ارتفع حاجبه باستهجان, مع قوله:" ابن خورشيد ده؟.. تصدقي كان قلبي حاسس إنه مقضيها, وبعدها جابلنا طفل الخطيئة.."
زفرت بنفاذ صبر, وهي تشعر بالصداع, لكنها ردت متهكمة:" يا ريتها كانت كده.. لكن ده منحوس.. ده ابن ابن عمه.."
لم تدعها السيدة هبة تُكمل حديثها مع شقيقها, بل تقدمت منها بعينين مشتعلتين, تجذب ذراعها, تهزها,
قائلة بغضب:" أنا عايزة أفهم الواد ده بيعمل إيه هنا؟.. جيباه ليه؟.."
وملامح وجه والدتها دفعتها للتوجس, فقالت بهدوء:" اهدي يا ماما واقعدي, وأنا هفهمك.."
لم تنصاع إليها هبة, فزفرت بُشرى مُجددًا, تدعو على خورشيد سرًا,
مكملة لوالدتها بنبرة حزينة؛ لكسب عطفها:" ده ابن ابن عم خورشيد.. صلاح إنت عارفه يا بشير.."
وبشير يعلق بهمهمة باردة, وهو يتفحص الصغير بعد أن حمله كدمية صغيرة:" امممممم.. اسمع عنه.."
هزت رأسها مؤكدة, مع تكملتها لوالدتها:" اهو صلاح ده يا عيني مات من فترة هو ومراته في الخليج..
ويزّن ده بعتوه لخورشيد علشان يبقى وصي عليه.. بس إنتِ عارفة خورشيد يا ماما, مش هيعرف يهتم بيه, ويمكن يتسبب بموت الواد.."
ومع حديثها لانت ملامح هبة, حد دمع العينين, وهي تقول بتأثر:" يا ضنايا يابني.."
تاركة بُشرى, متجهة لبشير, تأخذ الصغير من بين يديه, تتفحصه بعينين مشفقتين, فيرق له قلبها, مقبلة وجنته, بل انشغلت معه,
وبشير يقترب من شقيقته, هامسًا:" مش عارف ليه مش مصدق القصة دي.."
انقلبت ملامح وجهها, ترد عليه بفتور:" والله روح اسأل صاحبك.. جاتك البلا إنت وهو.."
ضيق عينيه بغيظ منها, قبل أن تلتوي زاويتا شفتيه بابتسامة خبيثة,
قائلاً بصوتٍ عالٍ نسبيًا بمكر:" يتربى بعزك يا بُشرى.. دلوقتي هنلاقي كل العُمارة بتخبط, تسأل عن مين العيل ده؟.."
جزت على أسنانها بغل منه, قائلة بغيظ:" مش أخويا بس مش برتحلك يلا.. طويل كده, وعايش مع كائنات تانية فوق, وأسود من جوا.."
لم يرد عليها سوى ببسمة ماكرة, مع تحريكه لحاجبيه بتلاعب,
ردتها إليه بمكر مُماثل, مع قولها البارد,
وقد مالت برأسها قليلاً:" متقلقش.. محدش هييجي.. طنط حنان قابلتني ع السلم وسألتني عنه, قولتلها ابن واحدة صاحبتي عندها كورونا هي وجوزها وبالعزل, فأخدت الواد يقعد عندنا.."
فلا تنال منه سوى ضحكة عالية, مع قوله الساخر بخبث:" الله.. طلعتِ علينا سُمعة ياختي.. طيب ربنا يُستر ومنلاقيش الجيران....."
رفعت يدها تكمم فاهه سريعًا, تحذره من بين أسنانها بخفوت:" خف يا بشير.. أقسم بالله أقول لماما إنك كنت بتعاكس بنت الجيران اللي قُبالنا, وبتبص عـــ....."
فيُسرع ليُكمم فاها بدوره, يحدجها بعينين متوعدتين, قائلاً بعد أن نفض يدها بعيدًا عن فاهه بهمس:" اكتمي خلاص.."
فتبتسم أسفل كفه بانتصار لمحه بلمعة عينيها, فيدفعها بعيدًا عنه بنزق, وهي تقترب من والدتها والصغير,
وهبة تقول برقة:" عسل.."
هزت رأسها موافقة, وبشير يرد على والدته بتهكم بعد أن عقد ذراعيه أمام صدره:" أهو تلاقي حاجة تشغلك يا ماما؛ بدل قعدتك لوحدك.."
حركت بُشرى عنقها للجانبين بتعب, بعد أن فكت حجابها,
قائلة بإنهاك:" هدخل أنام شوية, وبعدها نتكلم يا ماما.."
هزت هبة رأسها موافقة, وبُشرى تتحرك, لكنها عادت تهتف بصرامة:" تستحمي الأول , وتحطي هدومك بالحمام.. وأنا هحمي الواد بالحمام الصغير.."
وهكذا هي والدتها منذ انتشار الفيروس, لا يدلف أحد منهم للمنزل, إلا بعد جلسة تعقيم, وبعدها على الحمام بملابسه,
تحركت بُشرى متململة بنزق, لكن ذلك الكف الخماسي, على عنقها من الخلف (قفاها) والذي يبدو كسلام ترحيبي مُعتاد بين الأخوة..
جعلها تصرخ بغضب:" يا متخلف.."
************

غاوي مشاكل (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن