كاميليا...القسم الأول

3.1K 86 66
                                    




بدأت الحكاية بذرّة تربة حمراء، تلتها قطرة من إكسير سماوي عجيب ترافق مع نفحة عذبة تمازج فيها قليل من الضعف وبعضاً من الرحمة...

وعندها..عندها فقط خطّت الحياة أوّل ملامحها...

وأعلن أول نفس لآدم عن أوّل معجزة شهدها الكون...معجزة "الخلق"...

حينئذ تتابعت سلسلة المعجزات إلى عدد لا حصر له وأخذت البشرية بالإستحواذ على كل بقعة على وجه البسيطة...فتنوعّت واختلفت لتشكّل أنماطاً متميّزة وخاصة...بأعراقها...بأشكالها...بألسنتها...بعاداتها وتقاليدها...وبإيمانها...

ترامت أطراف سيطرة البشر في شتّى أنحاء الأرض، فتباعدت معها أطباعهم ومآربهم..فشرعت ذاكرتهم بنسيان أصلهم الواحد وأخذت بالتبدل رويداً رويداً لتتمحور حول مفهوم شريعة لا تمت لوجودهم بصلة..إلّا أنّهم آثروا اعنتاقها لتمسي المرجع الأوحد الذي لا غنى لهم عنه...ألا وهو "شريعة الغاب"...حيث البقاء للأقوى...والهلاك للأضعف...

فأضحى للألوان أحكام...للأعراق مراتب...للألسنة أفضليات...وللإيمان أشكال...

وقسّمت حظوظ الشعوب وأنصبتهم تحت قوانين سنّها من جبل من تراب...وروي من ماء...ونشأ من فراغ...

وبات الإنسان دمية متحرّكة تعبث بها أنامل جشع من عيّنوا أنفسهم آلهة في الأرض حين عميت أبصارهم...وصمّت آذانهم عن إله السماء الأوحد...

فحلّت بهم لعنة أبدية لازال يدفع ديّتها أجيال الحاضر...والمستقبل...

فمتى الخلاص؟؟؟

أم هو السؤال...هل هناك من خلاص؟؟؟

كم من الوقت بمقدور المرء تحمّله من دون أن يحظى بنفسٍ يقيه من السقوط مغشيّاً عليه؟؟؟

لعلّه يعدّ سؤالاً ساذجاً لكثيرين بيد أنّ الإجابة عنه كانت بالنسبة لها حدّاً فاصلاً ومصيرياً منوط بإرادتها التي بدأت تنال منها علائم الإنهيار...فما لبثت أن ضمّت قبضتها الصغيرة المتحجرة بقسوة وبنظرات لم تحد يمنة أو يسرة، تابعت تحديقها المثابر في المشهد الساكن أمامها، لكنّ خطوة وجلة خرقاء ولدت من حماس طفولي طائش عبثت بصمت الطبيعة المهيب فعاثت فيها عاصفة فوضوية نظّمها سرب من طيور أبي الحناء الذي أجفل ذلك الوعل الذي أدرك وفي اللحظة الأخيرة ماهية الخطر المتربص به في هيئة نصل مدبب لمع معدنه من بين أغصان الأجمة المتشابكة، فسارعت قوائمه بنهب الأرض بسرعة ضاهت تلك التي انطلق بها الرمح الذي وقع صريعاً خالي الوفاض بعد انتظار دام طويلاً...

اتسعت عيناها المغزليتين وفغرت فاها بإرتياع قبل أن تنقلّ ناظريها بين الرمح المسلتقي أرضاً بخيبة وظهر الرجل المتصلّب أمامها، فازدردت لعابها بصعوبة وسحبت نفساً احترق صدرها شوقاً له ثمّ عادت لتغلق عينيها بقوّة ولملمت كلّ ما ملكته من جلد وهمست بحذر :"أنا آسفة " قوبل اعتذارها بالصمت لوهلة حتى كادت أن تلفت وتعود أدراجها إلّا أنّ صوتاً عميقاً هادئاً أوقفها قائلاً بهدوء :"كلمة سهلة..أليس كذلك؟؟" التفتت لتنظر في وجه الرجل الضخم الذي نهض من مكانه ووقف بكل وقارته ورصانته التي كانت تنطق بها عيناه الدافئتين رغم جبروت هالته الفريد...فاقتربت منه مطأطئة رأسها بإحترام تشرّب ببعض من القلق وأجابت بحسرة :"لا...ليست سهلة يا أبي...فهي لن تصلح ما حدث ولن تعود بالزمن إلى الخلف لتمنحني الفرصة كي أكفّر عن خطئي، لكنّها جلّ ما أملك!!" تأمّل الرجل رأس الفتاة المكسي بقلنسوة صوفية منسوجة من ألوان عشوائية كانت الغلبة فيها للأحمر والتوت شفتاه بإبتسامة صغيرة قبل أن يحضن ذقنها المنكسّة نحو الأسفل ويرفع بها وجهها مجبراً إيّاها على النظر إليه ومطلقاً تنهيدة خافتة حين لمح ندى مقلتيها المتلألئ وسألها بلطف :"هل هي دموع الأسف أم الخوف يا ويندلين؟؟" أفلتت شهقة حادة من حنجرتها التي كانت تئن ألماً وأجابت بقهر :"بل هي دموع الخيبة يا أبي!! لقد كنت تتربص بذلك الوعل منذ فترة وقد تسببت بتصرفي الأرعن ذاك بخسارتك لصفقة مربحة فيه!!" لاحت عاطفة مبهمة على تقاسيم وجهه المنحوتة بقسوة وانحنى قبالتها حتّى يواجه حجم قامتها الضئيلة مريحاً بكفيه العريضين على كتفيها المرتعشين وردّ بنبرة حازمة :" ليست هذه بخسارة تستوجب تفريطنا بدموع لا تستحقها!! أجل لقد هرب ذلك الصيد منّي، لكن هناك الكثير من الفرائس بإنتظار صبري ورمحي ...لا أريد أن أشهد على دمعة واحدة تنحدر بسهولة من عين ابنتي، فهي غالية وثمنها لا يمكن لشيء على هذه الأرض إيفاءه..هل تسمعينني يا ويندلين؟!!" افترّ ثغرها عن ابتسامة عريضة اكتسحت وجهها البريء بأكمله فإغتنمت إحدى دموعها الفرصة لتلقي بنفسها خارج حصن عينيها المنيع فكان نصيبها أن تحطّ على إبهام خشن الملمس ما كان منه إلّا أن أزالها من الوجود حين إحتوى صاحبه وجنتيها متابعاً بثبات :"لم أغضب منك يا وجه الملاك لإعتقادي بأنّك السبب خلف إفساد صيدي..لكنّي لست مرتاحاً لعدم إدراكي لوجودك وملاحقتك لي طيلة هذا الوقت!! أنت تعلمين بأنّ الغابة ليست بمكان آمن لطفلة مثلك وقد حذّرتك مراراً وتكراراً من ذلك!!" قطّبت حاجبيها وبدأت بشائر التمرّد والسخط تظهر على محياها وهي تعترض بعصبية :"لست طفلة صغيرة يا أبي!! أنا في العاشرة من عمري وقادرة تماماً على مرافقتك إلى الغابة وحتّى إن سمحت لي فسأريك ما الذي أعرفه عن استخدام الرمح!!" زفر الرجل بحدّة وهمّ يقف على قدميه مجيباً بصرامة :"كفّي عن مجادلتي في كلّ مرّة أنهاك فيها عن القدوم إلى هنا يا ويندلين!! مازلت صغيرة والصيد على أيّ حال لم يخلق للفتيات أفهمتِ؟!!!" ومضى متجهاً خارج الغابة نحو القرية، فبدأت تهرول لتلحق به هاتفة بصوت لاهث :"ومن الذي حدّد ما الذي يمكن أو لايمكن للفتيات فعله يا أبي؟؟ هه؟!! دائماً تقول لي لأنّك فتاة لا يجوز..وخطر عليك..وليس بإستطاعتك!!! ما الفرق بيني وبين الصبية في سنّي الذين يرافقون آباءهم في رحلات صيدهم؟؟!!" تابع طريقه بخطوات واسعة وقد على وجهه الجمود وكأنّ سيل كلماتها الحانقة لم يلقى مسامعه المنشودة فتأجج صدرها بنار غضبها الجامح واندفعت لتتسمّر في طريقه وتصرخ بأعلى صوتها بأوداجها المحتقنة البارزة قائلة :"لم لا تجيبني يا أبي؟!! لم تتفادى إجابتي عن سؤالي هذا في كلّ مرّة أطرحه عليك؟!! ألأنّك كنت تريدني أن أكون صبيّاً تفتخر به وتعتمد عليه في إعانتك في عملك ومسؤولياتك؟!!" توقفّت لتلتقط أنفاسها الملتهبة قبل أن تضيف بيأس جشن مشيرة بإصبع مرتعش إلى رأسها :" انظر..لقد قمت بإخفاء شعري الطويل..وإن أردت بإمكاني قصّه ببساطة وستأذن لي أمّي إن أصررت!! كما أنّني أتدرّب كلّ يوم لتحسين مهارتي في الرمي..أعلم بأنّ الرمح مازال ثقيلاً بعض الشيء لكنّي أستعيض عنه مبدئياً بالسكاكين!! وإن شئت فأساعدك أيضاً في حرث الأرض..أنا قويّة يا أبي فقط امنحني الفرصة كي أبرهن نفسي لك!!" ساد الأجواء هدوء مفاجئ تخلله بضع هاجسات وهمسات متفرقة انبثقت من شتّى أعماق غياهب الغابة الدهماء..فأسبلت جفنيها علّها تنجح بإستجماع شتات نفسها التي بعثرتها عاصفتها الثائرة، وحينئذ لم تشعر إلّا ببرودة مباغتة تغلغلت في قبّة رأسها عندما انتزعت قلنسوتها بخفّة لينسدل شلّال خصلات شعرها الجعداء الداكنة على كتفيها ويرتاح أخيراً على طول ظهرها في انتظار نسمات الخريف الماجنة...ففتحت عيناها على اتساعهما بصدمة لتجد والدها جاثياً في مواجهتها حاملاً بين أصابعه ذلك النسيج الصوفي الذي حاكته أنامل والدتها لها بإبتسامتها الحانية التي لم تكن تخلو من بعض الغموض...رفعت يدها تتلمسّ شعرها الطليق وهي تهمس بإستنكار :"لمَ فعلت هذا يا أبي؟؟" التقط خصلة داعبت وجنتها المخملية المتوردة وعلّق بشرود :"لطالما تذمرّت أمّك من نظرات نسوة القرية في كلّ مرّة تترك شعرها حرّاً من دون أن تجمعه بضفيرتها المعهودة..ولطالما كنت أغيظها بأنّهن على حق فهي المختلفة الوحيدة بينهن..ذات لفائف الذهب الأسود، إلى أن جاء من يشاركها الهم وينافسها على مكانها في قلبي في الوقت ذاته!!" أخذت تتأمّله بنجلاويها الحائرتين، فمنحها ابتسامة تقطر عاطفة وأردف قائلاً :" عندما حملت أمّك بك..كان الأمر أشبه بنجم مضيء، يظهر في سماء كلّ ليلة وتحاولين بإستماتة كي تمدّي يدك لتحصلي عليه وتفشلين في كلّ مرّة..وفي ليلة ما تعاودين الكرّة..وتنجحين!! فتبسطي راحة كفّك ليخطف نوره بصرك ويملأ عالمك المظلم القاحل بأمل كان أشبه بالمستحيل!!" أشرق محياها بفضول دمث وسألت بلهفة :"وماذا حدث بعدها؟؟" انحسر شبح بسمته وغامت عيناه بأسى ذكريات مضت مجيباً بنبرة متحشرجة :"حريق...سعير التهم كلّ شيء وقف صامداً في وجهه إلى أن أمسى رماداً منثوراً" صمت برهة غافلاً عن نظرات الفتاة الجزعة إلى أن هزّ رأسه نافضاً عنه غبار ماض لازال جرحه طازجاً لم يندمل، ثمّ مسح وجهه بكفهّ بسرعة وعاد ليقبض على كتفيها الهشين مضيفاً بفخر :"وبعدها ولدت عنقائي بوجهها الذي لم تبخل عليه الشمس بقبلها البرونزية وعينيها اللتان شهدت انعكاس الجنّة من عمقهما...ولدتي أنت يا صغيرتي لأكون أنا أوّل من يلمسك بيدي المعفرتين برماد شعب بأسره...فأضحيت هبّة الإله لي وأغلى ما لدي على الإطلاق!!" ارتجفت شفتاه بإنتهاء كلماته، فأسند جبهته السمراء على جبهتها الرقيقة وهمس بتهدّج :"تذّكري دائماً بأنّي أكثر الآباء فخراً في العشيرة كلّها..فمن حظي بفتاة..يكون قد حظي بالأبدية يا ويندلين...فأنت أبديتي يا ابنتي!!"

كاميليا Where stories live. Discover now