أغدًا ألقاك

44 2 0
                                    

الإهداء

للوعود التي تُنفذ ، للقصص الصادقة
والقلوب الباقية ...
مازال الحب باقيًا ..




الإهداء
لمالكة القلب وساكنته الأولى ..
رفيقة الدرب إلى المنتهى ، فلتعتبري قصتي هذه بمثابة اعتذار صريح ...
لمسكني ومأواي .. نهاد
آسفة !

نورا محمود

البداية

ما بين اليوم والأمس ، ومشاعر الثانية الـمُنقضية والأخرى التي تسارع للمجئ تنهدت بشوقٍ يزيد في القلب خفقاته .. أربع وعشرون ساعة ويحدث اللقاء المرتقب ، ساعات تحسبها قليلة ولكنها في المرور تماثل السبع العجاف فلا ماءً يروي الظمأ ولا طعامًا يسكن المعدة الصارخة جوعًا ، هي بالفعل ظمآى تكاد تتشقق شفتاها من شدة جفافها ، يلتصق طرف اللسان بحلق الفم إن شاء النطق ولكن لم تكن الماء يومًا ما ترويه ..
هي عارية وسط الصحراء القاحلة تلفحها حرارة الشمس فتُحرق من بشرتها ما تطاله وهو سحابتها المصاحبة ، تسترها من عين الشمس الوقحة وتغمرها بغيثٍ رطبٍ يصنع رداءًا لامعًا يحيل عُريها حشمة ..
ألقت بجسدها الذي أُنهك طوال اليوم في أعمال التنظيف وإعداد ما لذ وطاب من الأطعمة والحلويات التي يحبها على الفراش في جانبها الخاص منه  ، لن تحتل مكانه ككل ليلة فصاحبه عائدٌ غدًا ، تحركت كفها في مكانه برقةٍ تتحسسه وكأنها تعاين جسدًا راقدًا فيه ، تبتسم بولهٍ للحبيب الغائب وكأن عيناها تقابل عيناه ..
دمعة هربت من عينها لتحرق بنيران شوقها وجنة باردة أثر غيابه ، فتنهدت تبتلع غصة ثلاث سنواتٍ غابها ، تراه فقط عبر شاشة الهاتف الباردة التي تعيق نهمها في الوصول إليه ، فليذهب البُعد للجحيم ، ولتَمُت تلك الظروف التي تجبر زوجين على الافتراق .
ثلاث سنوات يقع بين كيانهما بحارًا والقلوب رغم البعد ملتصقة ..
فكم من بعيدٍ بجسده لازمت روحه خلدنا !
كفكفت كلماته دموعنا !
وأدنا عنده أحزاننا !
فما بالكم بحاكم القلب منذ الصغر.. هو أبيها وابنها ، هو دار النصح وأمر النصح نفسه ، هو وإن كان سبب الداء دواءه ..
هو زوجها حبيبها هو سليم .
قبضت كفها بحماس فغدًا يوم اللقاء ، ستراه غدًا ، ستلقي بنفسها في أحضانه غدًا ، ستدغدغ رائحته أنفها فسيسافر الأثر إلى خافقها غدًا ، ستترنح من مُسكرات عينه غدًا .
*******
يبدو أن الثاني في النصف الآخر من الكرة الأرضية جافاه النوم أيضًا ، ابتسم ليقينه بأن علاه تغرق بأفكارها فيه ، صغيرته التي رعاها إلى أن أزهرت فكما كان البستان الذي يرعاها كان الوحيد الذي يستحق النيل بعبيرها فقطفها حبًا وزرعها في إصيصه لتصبح ملازمة له على مر الأزمان .
ماكان البعد يومًا في باله ولكنها أمورًا تفرض نفسها فرضًا وكل شيء في النهاية لحبيبته ودلالها .
آخر ليلة في الغربة تقذف في ذكراه الأولى ..
بقايا لحظات الوداع العالقة في رائحةٍ مازالت تتهادى في أنفه ، وصدى شهقة الوداع المؤلمة المتردد في أذنه ، واحتضانه لفراشٍ بارد يُشعره بحسرةٍ على الدفء الذي تركه في أرض الوطن .
مرت عليه الأيام شهور والشهور سنين والسنين دهورًا لم يعد يستطيع حصرها أراد في كل ليلة منها لو يتمكن من لم شمله بمحبوبته ولكن الاجراءات التعسفية لطالما صنعت رادعًا له وهادمًا لأحلامه ، تعذبه مكالمات عبر الهاتف بصوتها الباكي اشتياقًا وتقتله رغبته في القفز عبر شاشته ليضمها ويبثها أشواقًا أحرقته كل ليلة ..
ليالٍ من كثرتها يأس انقضائها ، وحدها هي كانت بصيص الأمل يغرد له أن الأمر سينقضي لا محالة ، وأن سكناك الأبدية بين ذراعي فأنا موطنك على أرض الوطن وأنا مسكنك في كل الليالي .
نهض عن الفراش يتحسس في الظلمة مكان الهاتف حتى وصل له ، لم يستطع كبح رغبته في إمضاء هذه الليلة يحدثها ، فلم يعد يطيق صبرًا للقاء ..
مع أول رنين جاءه صوتها مُحملًا بزغاريد الفرحة ووجها بسعادة اللقاء ..
-أ غدًا ألقاك؟!
ابتسم بولهٍ فهي تعلم مدى عشقه لأغنيات الست ، ولكن أتعلم مدى عشقه لها هي ..
ساعات شح فيها الكلام فلغة العيون أبلغ في وصف الحب إن فاض ، العيون أبرع في رسالات العشق ونيران الاشتياق .
مرت ساعاتٍ لم يدركها ، ولم يدرك حتى أن الحبيبة على الطرف الآخر قد غلبها النعاس والهاتف مُثبتًا على وجهها كما تضعه دومًا مستندًا على حافة الكومود جوارها ..
اقترب برأسه ناحية الهاتف فأصبح مُلاصقًا لشاشته ...
طبع قبلة حانية ، رقيقة على الشاشة الدافئة ، قد بزغ الضوء في أركان غرفته ، وارتفع صوت منبهه فأغلقه سريعًا كي لا يوقظها صوته ..
عاد بكفه يتحسس وجهها مُمنيًا نفسه ، فماهي إلا ساعاتٍ تفصله عنها ، تنهد مُبتسمًا بحنين ..
وصوته الرخيم يهمس لها ...
-من أراد العلا سهر الليالي .
****
استيقظت فجأة ، ظنًا منها أن النوم قد أكل كل وقتها ، واقترب وصول الحبيب ولم تتجهز بعد ، تنهدت بارتياح حينما طالعت شاشة الهاتف تتفقد الوقت ، مازالت العاشرة صباحًا ، نهضت بحماسٍ تفتح شبابيك المنزل داعية أشعة الشمس للدخول بكرمٍ للضيافة .
عادت ركضًا لهاتفها تتفقد أحواله..  فاتصلت مباشرة به وكان السؤال..
-أين أنت الآن ؟!
-في المطار يا عمري.
مكالمة بطعم اللقاء المرتقب ، وبسمة بلون الشوق الخالص ، تعلم أنه لن يصل إلا مساءً عند آذان العشاء تقريبًا لكنها أرادت البدء في تجهيز نفسها فهي العروس تنتظر فارسها ، وأيضًا تعفي نفسها من الحملقة في الساعة تراقب تزحزح العقرب الثابت تقريبًا فيقتل مرور الوقت وتظل حبيسة ما بين الثانية والأخرى..
ترغب في البقاء معه كل يومٍ في كل عام ، ولكن كيف ذلك ونفقة استئجار منزل لهما وحدهما هناك يعادل نصف راتبه تقريبًا!
تتفنن الحياة في وضع صعابها بين الخطوة والأخرى لتتيقن بأنها ستُصيب لا محالة إن لم تكن في هذه ففي الأخرى..
جاء المساء مُصاحبًا قمره ، وقمرها لم يصل بعد يكاد قلبها يخرج من ضلوعه ركضًا إلى الطرقات مُستقبلًا مالكه بحفاوة اللقاء..
منذ أخبرها بتحركه من المطار قادمًا أخيرًا وهي تقطع أروقة المنزل ذهابًا وإيابًا تُطالع الباب بترقبٍ وفجأة ارتفع صوت جرس الباب..
ركضت كالصغير المتلهف لحلواه فهو كل حلوها ولكن ما إن انفتح الباب فتلاقت بكل مُرها ... والدة سليم
-بحق الله ما الذي تفعله هنا ؟!
صرخت بها علا في عقلها ولكن بدبلوماسية سنوات من العشرة وخبرة مواقف مع حماتها العزيزة ابتسمت بهدوء..
-مرحبًا أمي.
أمسكت هانم بطرف الرداء الذي ترتديه علا ومصمصت شفتها ثم سألت وهي تدلف إلى الداخل بتملك وقح..
-هل وصل ابني بعد ؟!
أغلقت علا الباب وبهدوءٍ أجابت..
-على وشك ، أمي.
وقفت هانم على رأس طاولة الطعام تُعاين ما بها ، ثم قالت بملامح فظة..
-ما كل هذا التبذير ؟! وأنا أقول إلى أين يذهب مال إبني ؟!
اقتربت علا منها تحاول رسم ابتسامة ليمر الأمر بأقل الخسائر، هي لا تريد لسعادتها أن تنغص ، تعلم جيدًا نوايا السيدة هانم فهي تكرهها لشدة حب سليم لها ، تراه كثيرًا عليها ولا تستحقه لأن علا كانت اختياره ، أحبها والجُرم في نظر السيدة هانم أنها بادلته هذا الحب..
-هذه الأصناف التي يفضلها سليم يا أمي ، أرغب في تعويضه عن سنوات الغربة..
نظرت لها هانم بتفحص ، فشددت علا من غلق الروب الخارجي فباغتتها هانم..
-على الأقل احترمي وجودي واذهبي واحتشمي .
تنحنحت علا واحمر وجهها وهمست..
-عذرًا أمي لم أكن أعلم بمجيئك فلم أتجهز..
جلست هانم على المقعد خلفها وقطبت بين حاجبيها..
-هذا منزل ابني ، آتيه وقتما أشاء.
أومأت علا بمرارة فقد كُسرت الفرحة بقلبها بالفعل..
-طبعًا أماه.
دلفت بإحباط لغرفتها ، ومالت بخيبة تُطفئ شمعات أنارتها لتصنع مقارنة مغوية بين حرارة لهيبها وحرارة شوقٍ كبتته لسنوات ، ليأتي جليد القدر في هانم فتفسد في المقارنة اتساقها ، وعذوبة أركانها.
شرعت في تبديل ملابسها فعالجها صوت جرس الباب ، كان هو المنتظر بعينه ولكنه لم يكن اللقاء المرتقب ، سقطت أولى دمعاتها وصوت الأم تفتح الباب بحرارة..
ها قد حُذف أول مشهد خطته بنبضاتها منذ تركها ورحل..
وصل لأذنها صوته مُتفاجئًا ، مُحبطًا كحالها تمامًا فلم يكن هذا ما يتوقعه أيضًا ، ازداد خفقان قلبها لهفةً وازداد انهمار دموعها حسرةً لليلة كانت ستكتب في التاريخ بألف ليلة وليلة..
ارتمت باكية على الفراش ، تكتم في شهقاتها فرغم الألم الغائر في روحها لا ترغب في جعله يحزن ، بحركات لا إرادية بدأت تمسح وجهها بعبثية ، قاصدة تلك الدموع التي بكل بلاهة صنعت غيمة سوداء أسفل عينها ، بئسًا لذاك الكحل الذي تزينت به.
بسرعة توجهت ناحية المرآة تحاول إزالته ولكنه قد كان عند الباب سكن ..
بمجرد أن رأته أصاب جسدها الوهن..
سقطت بصورة بطيئة تغطي بكفها وجهها من الخجل..
فركض باتجاهها يلتقطها في أحضانه يشاركها ذات الثقل..
رفعت بيأس يُخالط في الشوق حرارته ولسان حالٍ يصرخ..
-ما العمل ؟!
رفعها عن الأرض وحملها بكل سلاسة ، وأغلق الباب بقدمه مُتعمدًا صنع صخبٍ ، وصل جيدًا للمقصودة به..
ووضعها برفقٍ على الفراش..
-افتقدتك عمري.
فلتت منها تنهيدة باكية فأوقفها بسبابته على شفاهها ومال بجذعه يمسك بالمناديل الموضوعة على الكومود وشرع بمسح ذاك السواد برفقٍ..
-هوووش ، لا تبكي..  أقسم أني سأعوضكِ..
ثم ابتعد برأسه يدقق ليتأكد من تنظيفه لكل السواد ، ولكن حرارة خدها واحمراره الشديد جذبه فأمسك بهما يداعبهما..
-ألن تقولي بأنك افتقدتني ؟!
رفعت عينها بيأسٍ ثم همست باشتياق بالغ..
-مازلت افتقدك..
لم يستطع منع نفسه من التقام شفتها الممتلئة والتلذذ بمذاقها في فمه ، وقد خارت قواها وسقطت حصون اليأس بداخلها وباتت هانم بموقفها هباءً منثورًا ، ولكن صوت الدق على الباب أفسد ما في اللحظة من متعة..
-ستتركوني وحدي كثيرًا ؟!
همس سليم بنفاذ صبر..
-هادمة اللذات أمي..
ثم نظر لعلا التي اغرورقت عينها بالدموع مجددًا وأضاف..
-لا لا لا تبكي ، سأصلح الأمر..
قبل جبينها وهمس بوقاحة..
-ارتدي الرداء الأحمر ريثما أعود..
ونهض عن الفراش مُعدلًا من هيئته ، فسألته..
-إلى أين ؟!
ابتسم بمشاغبة..
-سأعيد لليلتنا نِصابها..
خرج وأغلق الباب ودقائق وسمعت صوت الباب الخارجي يُغلق ، خرجت على استحياءٍ بهدوء لترى ما حدث ، فوجدت البيت فارغًا لم تستطع منع نفسها من القفز فرحًا فقد أنارت من جديد مصابيح سعادتها ، فالمخططات لم تذهب هباءً..
وركضت سريعًا تتجهز من جديد.
***
بينما شق سليم الطريق بوالدته يُعيدها للمنزل ، وبسياسته المعتادة امتص الأمر ، فهو أدرى الناس بأمه ، يعرف كيف يردعها ولكن دون أن يجرحها..
ليست بالسهلة أبدًا ولكن صبر علا ودبلوماسيتها أجادا التصرف دومًا ...
-سامحك الله يا ولدي..  تنصر بنت حفيظة عليّ..
قالتها أمه بعتبٍ لائم..
رفع حاجبه وطالع أمه ضاحكًا..
-لا أحد في قلبي كهانم..  لا حفيظة ولا ابنتها.
زمت شفتاها..
-أرى ذلك بوضوح..
مال برأسه عليها بدلال..
-ألا تريدين حفيدًا... أماه ؟!
بوجه بشوش..
-بالطبع أريد ، سأقدم الولائم وأعلق الأنوار يوم أُصبح جدة..
نظر لها بعبثٍ..
-رأيتِ ؟!
كل هدفي فرحتك ورضاكِ أماه..  كيف سيأتي الحفيد إن ظهر عائق في الليلة الموعودة ؟!
لكمته في كتفه..
-أصبحت عائقًا الآن يا ولد!
وأضافت بفمٍ معووج..
-اسمع سليم ، سأتظاهر بالاقتناع على أن تبيت عندي الليلتين القادمتين أنت وابنة حفيظة...
ابتسم مُطأطئًا رأسه
أوصلها لمنزلها ووعدٌ بقضاء الغد معها قد أُلقي من على أعتاب الباب ، فلن يدخل معها ليغرق في كومة السلامات فتضيع الليلة المنتظرة..
****
رنين جرس الباب ارتفع ، فبنفس اللهفة الأولى ركضت ، لتقابلها ابتسامة بالنيل انتظرتها بحرارة..
حملها بين ذراعيه وأغلق الباب بقدمه بحركة مسرحية ، وضحكاتها الرنانة تصدح في أذنيه فتتأهب كل خلايا جسده بنشوة..
وصل إلى الفراش ووضعها هامسًا بحماسٍ..
-الليلة يا عمدة


تمت

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jun 13, 2021 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

أغدًا ألقاك Where stories live. Discover now