الشّطرُ الأول

120 4 1
                                    

في دهاليز تلك المكتبة العتيقة التي يتسللُ إليها ضوء الشمسِ الدّافئ بينَ رفوفها صفّفَ أمين المكتبة صناديق َالكُتب التي وصلت للتّوِ مع إشراق شمس يوم الجُمعةِ كأي يوم قد عاشه خلال الخمسة عشر عام الماضية.

كتابًا تلو الآخر ، رفًا تلو الآخر  ، دهليزًا تلو الآخر .
حتى عندما طُرق باب المكتبةِ ثلاث طرقات خفيفة متتالية ، ذهبَ الأمينُ لفتح الباب لأول قارئ لهذا اليوم
دخلت سيدة حاملةٌ بين يداها باقةٌ من الوردِ الأحمرِ والأبيضِ و القليل من الوردي الفاتح وبعضًا من الأزرقِ وما تشاءُ من الالوان.

'تفضلي سيدتي' قال الأمين.
دخلت السيدة حتّى اختفت بينَ دهاليز المكتبةِ الضخمةِ  لِتبحثَ لها عن كتابًا تودُّ به و تهيمُ بين سطوره.

ذهبَ الأمينُ لصندوق الإستقبال وأخذ من كُرسيه الهزازِ مقعدًا بعد مرور دقائق قليلة في تمام الساعة العاشرة صباحًا دخل فتى صغير بيده كوبًا أبيضْ من القهوةِ التي عَبَقَ رِيحُهَا في كافةِ ارجاء المكتبةِ مُعلنةً حضورها للمتواجدين.

'صباح الخير سيدي'
'مرحبًا يا فتى'
'تفضل كوب قهوتك المعتادة'
'شكرًا'
'العفو'

بدأ القرّاء في الولوجِ الى داخل المكتبةِ وهناكَ من يخرج خلال ثواني والبعض يدخل عالم خياله برفقة الكتبِ دون أن ينتبه لمرور الوقت حتى تُقفِلُ المكتبةِ ابوابها ويكون أخر الخارجين منها.

كان ذلك يومًا كالأيام الإعتيادية بصباحِهِ الدافىء وكوب قهوتِهِ السوداء وهدوء مكتبتِهِ...
يخرُجُ القرّاء منها منهم من ذرفت دموعه ومنهم من ملئ رأسه بفكرٍ جديد ومنهم من كان طالبًا يبحث عن موضوع جدير لبحثه المدرسي ، منهم من كان يريد أن يعيش حلمه بقراءة كلمات قد تحيي روحه الكئيبة .
صبيانٌ كانوا ام كبار سِن تلك المكتبة فتحت ابوابها لكل روح عشقت القراءة ، لكل قلبٍ وجد راحتَهُ في صفحات الورق و خطوطٍ من حبر و رصاص و رائحة الرفوف العتيقة.

انتهى يوم الجُمعة ملوحًا يداه ليومٍ جديد ، لكتابٍ جديد ، لقارئٍ جديد...
اغلق الأمين ابواب مكتبته وذهب إلى شقته الهادئة في أخر طريق الحي التي تقبع في الدور الرابع من المبنى السكني القديم.
فوق سريره المُريح على وسادته قد وضع ثقل رأسه وهمومِهِ ليُريحَ نفسه اليوم و يقضي الليل نائمًا محلقًا في عالم من السواد دون أي حلم يرواده.
منذ وفاة أخته محبوبتِه الصغيرة قبل خمسة عشر عام لم يزوره أي حلم ولا حتى تلك الكوابيس الغليظة. 

استيقظ الأمين لصباح الشمس الذهبية وخيوط ضوءها الدافئ.
قام بإعداد البيض المقلي برفقة كوب حليب دافئ كفطورٍ له في مطبخه الصغير ثم ذهب لدورة المياة ليأخذ حمامًا سريعًا بماء بارد يروي الجسدَ حياة بعد ليلة طويلة.

ذهب لمكتبته وفتح أبواب المكتبة ليرحب بقرّاء مدينته.
وما حدث في يومِ أمس سيتكررُ اليومَ وغدًا و مئةَ ألف سنةٍ قادمة...ذلك ما كان يفكر به عقلُ الأمين لكنه تعلّق بحبل الصبر وانتظر موعد فرحته المجهولة القادمة من السماء كهدية لقلبه الحزين وعيناه الذابلة.

أخذَ يدور ويتفقدُ مكتبته وقُرّاءِها ويتأملُ جَمالَ الكتب مصفوفةً على تلك الرفوف الطويلة وكأنها خُلقت ليراها
من بعيد سمع صوتًا كـ لفحةٍ خفيفةٍ مرت من أذناه
ذهب الأمين باحثًا لمصدرِ الصوت ذاك وكأنما قد سُحر وفُتن بتلك اللفحةِ .
كأنما هناك من زمر بالمزمار وهو كالطفل الصغير يتبع أمواج ذلك الصوت .
رفًا تلو الأخر حتى وصل الأمين المسحور لذلك الصوت.

من بين الرف الطويل أبعد كتابًا ليرى من خلفه
فوجد فتى تتراقص أنامله البيضاء مع أوتار جيتاره البني كـ لون العسل الذهبي .
تراقصت دقات قلبه مع نوتات الموسيقى الهادئة مهدئةً ما تراكم في قلبه من حزن العالم معلنةً بأنها حكمت قلبه و انتصرت على أحزانه رافعةً راية حكمها في أرض قلبه.

أصحبتُ أذنا الامين مُلكًا خاضعتًا لما تسمع وقلبه قد أعلن قائلًا سمعًا وطاعة لما شعر و عيناه لم تترك تفصيلًا في وجه الفتى الا وقد تأملته وحفظته لديها لعلها تراهُ في أحلامها.
انتهت مقطوعةِ الفتى واستقام ليخرج من المكتبة وذلك الامين لازال واقفًا يراقبه من بين الرُفوفِ و الكُتُبِ ناسيًا نفسه تاركًا روحه تذهب مع الفتى...
اختفى الفتى عن انظارِ الامين وعاد لوعيه متسائلًا ما الذي حدث للتو وكيف لقلبه ان ينبض هكذا ؟...

____________________________

-انتهى الشطر الأول-
لا تنسون الڤوت واتركوا تعليق...🍃

أناملُكَ البيضاء | TKحيث تعيش القصص. اكتشف الآن