بنفسج فبراير

131 22 47
                                    

أَمْسَتْ السَماءُ بحلّةٍ ليليةٍ شاعِرية، حيثُ تَوَسَطَهَا القمرُ وتَبَعْثَرَت النجومُ حولهُ، هبّتْ رياحُ فِبراير الباردة مُحَركةً كُتلًا مِن السحابِ لِتصنعَ لوحةً تؤنسُ وِحدتِي ..

كنتُ أَتَدَبَرُ فِي هذا المنظرِ البديعِ إلى أنْ ثقُلتْ جفونِي، فحركَنِي تعبٌ وكرهٌ دامَ طويلًا إلى طاولتِي الخشبية، أَجُرُ قدمِي المصابة بصعوبةٍ نحوهَا، فأتنفس الصعداء لهذه المسافةِ القصيرة.

على بَرَكَاتِ نورِ الشمعةِ الصغيرةِ خطت يدي رسالةً جريئةً أروي فيها عَمَّا يحدث فِي قلبي الجريح، شَيءٌ مِن الحمقِ واليأسِ المُضجرِ جعل مني أتجاوز إعاقة التي حالت دون السماح لي بالتعبير عن نفسي.

"أَخِي العزيز ..
اشتقتُ لَك، مهما اقتربتْ جُثتكَ من جُثْمَانِي ومهما استمعتُ لصوتِ تنفسكَ، مازلتُ أرى فراغًا سحيقًا يبعدنِي عنكَ! .. أفتقدُ تذمركَ الطفوليّ وقلقكَ المُفرط، تعبيراتكَ المنعشة ومشاعركَ المرهفة، لا تضع في حسبانكَ أن ابتسامتكَ التِي خدعت العشرات تمكنتْ مني! .. فَلَم أرى خلفهَا غير حزنٍ كبير، صغيرِي شقيقِي سجينُ ذاتهِ وخَاضِعٌ لحكمِ مسؤوليةٍ لا يقبلهَا سِنُّه، ما الكيان الذي حَالَ دون أن تُظهر لي الحقيقة علنًا؟ أتوجبَ أن أنتشلها من بين تمثيلك المتقن؟ لو شِئْت كتفًا تبكي عليهَا أو إِنْسِيًا تُبرز له حقيقتك فأنا على استعدادٍ تام .. ولو لم تشأ فأنا سوف أتخطى مرحلة إرادتكَ وأخترق الطريق إليكَ، أُجَاوِرُكَ إلى أن تَسترسل إلي الحديث!
من السخف أن يسمع استنجادكَ الصامت شخصٌ بمثلِ ضعفِي وقلةِ حيلتِي، لَكِنْ يُحكى أن غريقًا اِسْتَنجد بغريقٍ فنجَى الاثنان، لا حاجة أن أقص لك حُزني وتعبي؛ فواللَّه هو زائلٌ بقربك، أخي الصغير الوحيد، يا من لا حبيب لي غيره، أفسح لي مكانًا جوارك إني موحشةٌ قاحلةٌ بدونك ..

مضت أيامٌ حارب كِلانا فيها الوحدة، وبعد أن أدركت جُرمي متأخِرًا تَساءلت هل يكفي الاعتذار ليوفيك حقكَ؟ .. و إن تعددت الإجابات وضِعتُ بين شكوكي فإني مازلتُ أرجو الصفحَ والسماح، أدركُ أن قلبكَ الطاهر سيقبل اعتذاري لكنني أبدًا لن أسامح نفسِي."

طَويتُ رسالتِي بطريقةٍ أنيقةٍ مُعطيةً بعضَ الرُقِيِّ الذِي سَتَر خطِي المبعثرَ، ثم طبعتُ توقيعًا .. نظرتُ إليها بعينانِ زرقاوتان حملتَا وهنًا بالغًا وابتسامةً متعبة.

رُحت أجرُ ساقي معتمدةً على مسندِي الخشبيّ، أطرقُ على الأرضيّة الرُخامية، ما أحدث ضجةً خفيفةً عَلَا إيقاعهَا بِمُنتصف الليل، دقائق قليلة مع مشيتي العرجاء الثقيلة أوصلتني بعدها قدماي إلى وجهتي، وقفتُ أُناظِر الباب الذي يفصلني بشيءٍ من التردد .. وببعضِ التسرعِ نفضتُ عني الشَك ودفعتُ بها لتمر أسفل الباب .. سارعت في خطواتي لأرمي نفسي في سريرٍ ولحافٍ رجاءَ أن أنام دون شكوكٍ أو تفكير.

لم يعرف النوم طريقه إلي! .. أرسلتْ الشمس شباكَها الذهبية ونشرتهَا بدلالٍ في أقراصِ المدينةِ الصاخبة، بدأ ضجيجُ الشوارع يصل إلى مَسْمعي وتسارعت خطواتٌ خفيفة أنحاءَ المدرسة، كنت أعدُ الدقائقَ بعد فعلتي المتهورة إلى أن سمعت طرقًا على باب غرفتي، استدرت فوجدت رسالة بلون عَاجِيٍ أنيق بجانب مدخلي ، كنت أتوق بتلهف لالتهام أسطر رده!

" توأمتي العزيزة
بعد أن مزقت عدة رسائل حملت في محتواها كذبًا ونفاقًا قررت أن أتلو الحقيقة، دعيني أبدأ روايتي بحُلمٍ غريب لم تغب ذكراه عن بالي، حيث كنت أجلس في أريكةٍ عتيقة وقد جاورتني أختي في مجلسي، تضع يدها بيدي وقد تسلل سكونٌ دافِئ يرقص حولنا إلى أن تآكل اللّحم منا، وأمسى كلانا عظاما بيضاء بالية.
أختاه .. أنا مرهق وتعب، لقد تمكنت مني الحياة بعد أن فقدنا والدينا، هل حقًا الحياة تليق بي؟ بدأت أفكر في إنهاء مشواري الدُنْيَوِي.
مازلت أسير على الخطى التي رسمتها والدتي، لن أقول شيئًا من السخط و العتاب ناحية أُمّنا، إني أدرك حُسن نواياها، ألتمس أشد الشُكر لإفنائها أيامها فداءً لنا، ولو كانت لغة حبها ذات لكنة قاسية فإنها تبقى أشد رقة من همهمات الغرباء.

أخيرًا .. متى سوف تستمرين بتمثيل دور الخرساء؟"

مسحتُ دموعِي التي راوغتني و شَقَّتْ طريقهَا نحو خدَاي، لا أدري أأبكي فرحًا لرده الصريحِ أم حزنًا لِتَسللِ نية الانتحار بين أفكاره، أأندهش لكشفه تمثيلِي دور البكماء .. أقبلت طرقاتٌ خفيفة على بابِ غرفتي لتوقظني من ثنايا شُرودي، ليسترسل إلي صوت أُنْثوي يحمل ضجرًا وشيئًا من الغضبِ قائلًا:

"هيا، سوف يبدأ الصف ليس عليكِ التأخر، علينا أن نُحيي علم بلادنا"

تكاد هذه المدرسة الداخلية تسرق آخر فتيلٍ من الوعي لدي، تبتلِعُ سعادتي وتحرِق أملي .. تسوقني نحو الجنون!
لم تتلَقّى الطالبة إجابةً شافيةً فاكتفت بالذهابِ وهي ترددُ شيئًا من كلماتِ التذمرِ والسخرية، قررتُ تجهيز نفسي للذهاب إلى ساحة هذه المدرسة الداخلية ..

------

اخترقتُ الحشود الغفيرة نَحوَ العَلمِ بين همساتِ الطلابِ .. استدرتُ لأقابلَ علاماتِهم المُتعجبة، صرتُ أبحثُ بزرقاوتاي عن منشودِي، وحينما تلاقت الأعين السماويّة والبندقية قُلتُ بصوتٍ بَحّهُ الصمت:

"كَيْفَ لِنَبَاتٍ رَقِيقٍ كَالبِنَفْسَجِ أَنْ يُزْهِرَ فِي وَيْلَاتِ فِبْرَاير؟"

كما تمكن البَنَفْسَجُ من الإزهارِ في الشِتَاء القاسيةِ فإنَّ بحوزتك ما يفي من القوة ليجابه صعوبة هذه الدنيا، لَملِم صبرك فحسب.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Feb 08, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

بَنَفْسَجُ فِبْرَايَرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن