الفصل الرابع
جامد على وقفته له برهة .. طوله الفارع يرتجف كغصن مديد يرتجف مع رياح الخريف .. حاملاً داخل شروده تنقاضه الدائم بين الماضي والحاضر يسيء الأختيار .. أمام منزلهم القديم الدقيق الصنع الموروث العائلي منذ قرون بعيده في تلك المنطقة الأثرية الثرية بمثيلاته من الأبنية العتيقة الفخمة بطرز أسلامي دقيق، وكذلك مليئة برواد هذه النوعية من الثقافة .. تدور عيناه في ساحة صحن الدار الرئيسية تلك المساحة الفسيحة المحاطة ببعض الشجيرات العملاقة من نوع الكافور لجذورها عمق غائر متشعب ولجذوعها طول فارع مع أقطار كبيرة تدل على اعمارها .. لفروعها ظلال وافرة تحمل معها روائح مميزة بعطرها تدخل لأنفاسه منعشة ، تجعله قلبه يرتاح للغاية وفي نفس الوقت تحمل لروحه الحزن .. نظر من خلال زجاج نظارته الطبية المستديرة للأرض البازلتية السوداء المقسمة مربعات صغيرة .. حيث كان هنا يتعلم قيادة الدرجات .. والهرولة مع أخوته .. هناك نحو الجانب كانت أمه تزرع أحواض من الورود ذات الألوان المختلفة .. تندفع خلايا عقله نحو الماضي بينما عقله الجمعي يحاول تثبيت عينيه هنا على لحظة الحاضر حتى لا يفر للخارج مرة أخرى .. عاد يذكر ذاته هو هنا لمهمة محددة المدة والغرض .. ليس من حقه توجيه ملاحظة واحدة .. فلم يعد ينتمي لهذا المكان ..يجبره الخواء في المكان على العودة مضطرًا.. أين ذهبت احواض الأزهار؟!! .. أين مرحهم عندما كانوا صغار؟!! .. اين هدوء روح أمه؟!! .. بل أين أصحاب المكان ذاتهم ؟!!.
خواء روحه ذكره بماضيه السعيد الحزين في الوقت نفسه .. انقسامه الدائم .. وكيف سيتعامل مع الجديد من الأحداث .. هل هو مقبول وجوده أو مرفوض .. وهل هو بالفعل قادرعلى القتال من أجل استغاثة اخته الوحيدة التي وصلت إليه .
حامل حقيبة كبرياؤه العنيدة .. داخل حقيبته الظهرية متجمداً على باب منزلهم الكبيرذو التصميم القديم.. أمام بابه الضخم والذي ينفذ الجيوش لو فتح على مصرعيه المغلقين من قرون بعيدة .. داخله باب أخر لدخول الناس .. حتى هذا الأخر كبير بالنسبة للناس الطبيعية ..كم تسأل في الماضي :" أبي هل كان جدي عملاق حتى صنع الباب من أجله كبيراً هكذاً".
مصغيًا نعومة صوت أبيه القادم من طفولة سعيدة يحدها ضجيج الضحك الذي ظل هناك حبيس الماضي :" لا .. ولكن أجدادك كانوا فرسان حقيقيين.. جد جدك كان يدلف للمنزل على صهوة فرسه العربي الأصيل ".
لم يستطيع طرق الباب بالمطرقة المعدنية القديمة المثبتة عليه ، أو مجرد الضغط بسبابته على زر الجرس الحديث الذي دأب على استخدامه ماضيًا.. بل فقد القدرة على تحريك أطرافه كاملة في هذه اللحظة .
يكاد يسقط جاثيًا من مجرد احداث الماضي التي تبرق داخل أحداقه بعبرة حزينة ..صار ببراق ذكرياته حيث أحزان وسواد عارم ملأ قلبه ..حيث يوم كان عائدًا يهرول بزيه الأسود القتيل .. دلف للقاعة الكبيرة بسرعة طائرة نفاثة .. مهاجماً رجلًا مهيبًا يتكيء على مقعد مذهب الحواف وثير الحشوة .. قيم الثمن ككل شيء في القاعة الفاخرة .. لم يبصر أن الرجل يكاد يموت حزنًا.. يطرق ليديه التي وارت جثة صغيره التراب للتو .. حزنه قاتل .. اتهامه كبير ..يده الشابة تنغز كتفي الرجل الكبير كما طعنات المدي الحامية النصال :" قتلته .. قتلته ".
دفعه الرجل الكبيربقوة أكبرمصدرها مفاجأة الإتهام وقوته هاتفًا بدفاع أجوف الأدلة :" أخيك هو الفاسد .. طلحت أخلاقه، وأصر على طلاحه ".
فسقط على قاعدته يهذي بما أوصله لهذه الحالة التي أفاق عليها في غياهب الضياع اسبوعاً كاملاً فاقداً للوعي في مشفى :" كانت تعلم .. لكنها تركته يتعاطي حتى مات .. وأنت السبب .. قهرتنا منذ جعلت خادمة تتلاعب بك .. وضعتك تحت أقدامها .. ووضعتها فوق رؤوسنا ".
كان نصيبه من والده الشامخ الكبرياء أن تحرك نحو ابنه يمد اصابعه نحوه يجذبه حتى يقف أمامه .. ثم صفعة على وجه رجولته الفتية . جعلت رأسه يدور نحو المرأة السوداء القلب الجشعة التي لم يرى فيها أبيه هذا الطمع .. أجادت لعبتها على والده حتى كسر كل الأعراف ، وتزوج بخادمة في منزله ليجعل منها سيدة منزلهم .. متناسيًا أسم عائلته التاريخية المحتد .. حدجته المرأة السمراء التي بدى عليها صرف الكثير من الوقت حتى تصبح بهذه الهيئة الأنيقة بنظرة إنتصار كانت هي الإنكسارله .. هرول نحو الدرج يريد الإنزواء بين غياهب غرفته .. يحتوي احزانه على أخيه الفقيد بسبب إهمالها له .. كاد يختفى لولا كبرياء الأبوة القارص البرودة إذا جعل صوته الآمر مطرقة للفرار :" عد .. ليس لك مكان هنا حتى تعتذر لزوجتي .. إن كان شهاب أصر على التعاطي ليس ذنبها.. كنت تركت دراستك، وجلست تراقبه ".
تجمدت قدميه مكانهما .. يتمنى أن كان قد رحل مع أخيه للآبد .. انبرت نحوه أخته الأصغر التي لم تكف عن البكاء منذ الفجيعة .. تتمسك بكتفيه في طلب حماية ، واسترضاء .. استدركت أن طلبها ليس لديه .. هرعت للخلف نحو أبيها في ثوبها الأسود كأيقونة خالدة للحب والخوف .. تميل على أبيها .. تقبض على كفه هاتفة :" أبي .. رجاء .. من أجلى أنا .. ليس الآن .. جميعنا مجروحون .. قلوبنا مطعونة .. موت شهاب قتلنا جميعًا".
قبض على أصابعها بضيق هاتفًا بقسوة أكبريضغط على أحرف من رجولة لا تقبل الإهانة من أحدى بذوره :" ابتعدي أنتِ .. يجب ان يعلم لمن المنزل .. لمن الأمر والنهي .. دعيه يتقدم يعتذر لأمه ".
استدار الرجل الشاب ذي الثاني والعشرون من ربيع اعوامه نحو أبيه صارخاً :" ليست امنا .. أمنا كانت سيدة راقية رحلت لتتركنا مع هذه ".
انتفض ابيه في اختناق مترفعًا.. رافعًا سبابته نحو ابنه :" زوجتي سيدة المنزل .. مكانتها من مكانتي .. زوجتي هي أمك رضيت أم أبيت ".
على نفس وتيرة أوجاعه ، وروحه المشتتة بعدم تصديق .. كيف كان أبيه ينتقل من دور الاب الصديق لذلك الأب الكاره الآمر من أجل امرأة هي خادمتهم في البداية والنهاية ..جمد الحرف على لسانه ثم عاد متمتمًا :" من أجلك نعم .. اعتذر لك لأني تهجمت عليك .. لكن أهمالها هي أعلم به هي وأختها الشيطانة التي تمكنت من زرع هذه الحية هنا في بيتنا .. منذ مرض أمي .. هذه لم تداعب حتى رأس أي منا .. لا تصلح أم .. ولا يمكن أن تكون".
تحركت السيدة في ثوبها الأنيق تهرول بأقدامها المرتفعة على الحذاء العالي الكعبين .. صوته على الأرض يختلط بصوت انفاس االمتواجدين بالقاعة الحزينة .. تفر من اتهامه لها بأنها ليست أمًا مع فرارها من اتهامه بالإهمال في اخيه .. بل تجيد الفرار من العتاب ذاته .
هدر الأب بقوة وشكيمة :" لو لم تعتذر لها كما يجب لست ابني ، ويعد هذا المنزل محرماً عليك ".
صعد ابنه يهرول خلفها .. مما جعل نظرة ارتياح تجتاح عينا الرجل الكبير، في استدراك أن لا خلافات ستطفو في سطح القلوب فتعكر جو منزله الحزين.. فقد تعب من كثرة الخلافات ، وحدة التوتر .
بدأ يتنفس بهدوء ناظراً لابنته .. فتح لها كفيه حتي يطمئنها .. هامسًا في تأكيد منتظم محكم الوتيرة :" سيهدء .. هو فقط غاضب".
تحركت نحوه تريد أمانه .. مع الشك فيما يقوله فأخيها عنيد سرعان ماكان يتحرك على الدرج أمامهما يحمل حقيبته الظهرية التي أعدها بلحظة انفعال .. وقد وضع فيها صورة عائلية قديمة خالية من وجه زوجه أبيه ، وحافظة نقوده ..طاقم ملابس اضافي ليبدل فيه مع منامة لم يستغرق .. ثم هتف عندما إلتفتا إليه معاً .. بينهما مسافة خطوة .. منعتهما هذا العناق :"لست غاضبًا .. بالعكس أنا وصلت لنتيجة أن هذه الحية دلفت لتجعل حياتنا سواد .. كل ما أرادته مالك فقط.. انما مسئولياتك ليست لها ".
خلال الكبرياء نقع في خداع أنفسنا ، لابد ان نتعمق تحت سطح الضمير لأن صوته مهما خرج هاديء، ضعيف لكنه يقول لنا هذا غير صحيح .. وقف أبيه يصر على تجاهل صوت ضميره .. هدر في ابنه بكبرياء ذو عنفون متعالٍ:" كنت تتنصت علينا أيضًا ".
نظرة استخفاف خرجت من عينا ولده .. مع نظرة خوف رنت له بها ابنته تلومه .. ليس هذا ما أردته منك .. همهم في تحد سافر :" لو خرجت من هذا المنزل لن تعود إليه إلا بعد موتي ".
تحرك الأبن نحو القاعة حتى يقطعها .. ملقيًا بأخر ألغامه الثائرة :" حتى لو مت لن احضر جنازتك .. ولن أبكيك .. يكفيك الحية .. هذا لو بكتك ".
شهقت أخته بحدة .. بينما وضعت كفيها على فمها تكتم بكاءها .. ففي لحظة فقدت جميع أمانها في هذا المنزل .. ولم يمر على وفاة أخيها الصغير اسبوع واحد .. لم يتحدث أبيها فقط غادر القاعة في الجهة الأخرى نحو الدرج حيث أنصت لصوت الباب يغلق .
خرج بدون أن ينظر خلفه .. لم يعتقد ان أحدًا سيتمسك به أبدًا.. بل لم يعتقد أن هناك من يموت على فراقه .. ثمان أعوام يجوب فيها الأرض من بلد لبلد حتى لا يدع الحنين يشن حربه القاسي على قلبه المثقل بالوحشة .
تجمد في مكانه في قلب الساحة .. للآن لا يعلم أهو بالمكان الصحيح !!..أم أنه هذا هو الخطأ الثاني في حياته بعد تركه هذا المنزل؟!! .. نعم لقد أخطأ بالماضي بالترك .. ايهما أكبر اخطائه .. لن يعلم إلا بعد الدخول والمكوث وهذا ما يخشاه .. لكن لا حيلة لديه فقد حاصره البيت من كل حانب .. حاصره في الماضي ليركله خاجه ، والآن يجذبه بشدة معلنًا حاجته إليه .. لابد له من تلبية هذا الإحتياج .
*******************
رفعت هاتفها للمرة المائة .. تنتظر رسالته .. أو اعلانه الحضور .. فلم تجد وضعت هاتفها على المرتبة الأرضية التي جلبتها ووضعتها منامة لها منذ مرض أبيها هنا جوار فراشه .. تمسد بيدها تجعيدة صغيرة جوارها على الوسادة .. انتفضت مكانها في لدغة الفراق بعد لحظة اجترت فيها أحزانها تذكرت لحظة مغادرة أخيها الأكبر المنزل .. الفقد الذي عانته جعلها تخشى فقدًا جديدًا مع أبيها .. مرارة عالقة بالذاكرة كانت تلك اللحظة التي قررت فيها مخالفة كليهما فقرارهما بالفراق يقتلها .. عندما فتحت الباب الكبير هرولت خلف أخيها .. لم تجده .. لامت نفسها كثيرًالانتظارها لحظة .. ربما كانت قد استطاعت التمسك به بدلًا من خذلانه .. مازلت تشعر بذنب لا يغتفر ولوم شديد لأبيها قبل نفسها .. كيف تركا يمان يغادر حيث المجهول ، والوحدة .. صار نصيبها منه رسالة كل عيد .. أو لقاء عابر عند مقبرة العائلة خلسة دون إدراك أبيها.. كأن الحب فقط لمن رحل بحنانه .
سعلة حادة جعلتها تنتفض حيث هي جالسة على المقعد بينما صوت أبيها .. يتقطع :" ميـ.. نار.. يمان".
هرولت تأخذ منه قناع الأوكسجين المرفوع .. تعيده على وضعه حيث تنفس أبيها.. هامسة :" لا .. لم يحضر أخي بعد يا أبي ".
إجابتها جعلته ينظر لها ، وقد خبت داخل عينيه شعلة الأمل .. ربتت على يده في محاولة إعادة الأمل داخل خطوط عينيه :" يمان يحبك أبي .. مجرد أن أعلمته انك مريض ..أجاب بأنه سيحضر .. مؤكد الطريق طويل بيننا.. وقد كان مغادر في أحدى القوافل الطبية .. هذا عمله .. سيعود أبي .. سيعود ".
امتدت اصابعه تنزع هذا القناع البلاستيكي الذي يقهر صوته .. فيما هي تمنعه .. كشر حاجبيه بضيق .. هامسًا بارهاق :" اخشى .. أن يحضر بعد فوات الآوان .. لقد رأيت شهاب ".
تركت يد أبيها تحمل القناع .. نخر الوجع روحها بينما أبيها يتحدث ببطء الموت :" جاء يريد قيادة سيارتي ".
ارتجفت أصابعه بإهتزاز مرهق لأعصابها .. تتذكر مرض أبيها المباغت من أسبوعين ..وقتئذ تحدث عن شهاب وكيف احتضنه بشدة .. بحثت في تفسير الرؤيا لتعلم استدركت ان الإحتضان من الميت مرض طويل وقوي .. وقتها رفض معه الخروج من المنزل للمشفى .. جعلت اعد الطبيب له غرفته ، ومدها بالأكسجين الذي لابد له أن يتصل به دومًا.. ما أن أفاق أبيها وبدأ يتحدث .. تمسك بيدها هاتفًا في اختناق متوسل :" اتصلي على يمان .. أجعليه يحضر .. لا ينتظر موت أحدانا .. فأنا أموت ".
هرعت تتصل بأخيها الأكبر .. رفض في البداية لكنها أعلمته كلمات أبيها.. فقرر في لحظة :" سأعود يا مينار .. أنا قادم .. أبلغي العجوز أني انتظرت لحظة الغفران كثيرًا".
همهمت في ترجي أن لا يرهق نفسه :" أبي .. يمان عائد .. وقد ابلغني لك رسالة ..أنه انتظر غفرانك مطولًا.. قال لي أبلغي العجوز ".
ابتسم ابيها متذكرًا ابنه الكبير الذي كان يداعبه دومًا بهذا اللقب " العجوز ".
رفع يده متمتمًا بعبارة ملؤها الجزع :" هيا مينار .. اتصلي عليه .. السيارة هي حياتي .. وشهاب ينتظرني على الطرف الأخر ".
اعادت له القناع على تنفسه ، وتحركت نحو النافذة المصنوعة من خشب الأربيسك الأصلي المفتوحة جزء منها بشكل مشربية .. رفعت هاتفها أمام عينيها .. وقبل أن تتصل على أخيها وقعت عينيها على رجولته الناضجة القوية وكأن الزمان عاد لذات اللحظة الآليمة .. عاد يحمل حقيبته الظهرية .. جامد هناك في قلب الساحة الأمامية أسفل لحظيها .. صرخت من أعلى نحوه حتى لا يفر :" يمااااااااااان".
رفع عيناه نحو صوتها في ارتجاف .. حرك كفه في ضياع .. كل إشارات جسده جعلته تدرك صحة ما شعرت به أنه يريد التراجع .. لن تعيش نفس الحالة مرة أخرى .. لن تجعله يفرعادت تكرر بترجي باذخ :" يمااااان .. يمااااان ".
وعادت الساحة تردد أسمه في ترحاب صوتها .. الحنين في صوتها جعل عيناه تتغبشان بالدمع القهور فلم يرى أخته جيدًا .. هبطت عيناه يسيطر على دمعته الحبيسة التي فرت على خديه .. ثم عاد ينظر أعلى .. عيناه تهرول بخفة على الجدار الحجري تتجاوز الحجارة بألوانها العتيقة الداكنة دكنة أيامه .. سوداء ..،أو رمادية ، وبنية أحيانا ، وتارة تكتنز بالحمرة .. حتى سقطت عيناه على وجه أخته الصغرى .. رفع يده لأعلى محييًا.. هاتفًا بإختناق العائد قهراً.. قسراً:" أختي مينار .. مينااااار".
اختفت ملامحها من أمامه .. جعلته يقرر الإقتراب نحو الباب أكثر .. بل طرق الجرس إيضًا.
تحركت نحو أبيها تطمئنه بصوتها المكتنز سعادة وحنين .. بينما اصابعها تؤكد على القناع ليظل مكانه :" حضر يا أبي يمان أسفل في الساحة.. سأحضره لك ".
حدق بها فرمت له نظرة .. غادرت بعدها فوراً حتى الرواق .. تهرول حتى نهايته .. تقفز على الدرج الذي يذكرها بكل يوم عاشت فيه بلا أمان .
لم تدرك التي كانت تتصنت خارج الباب فقد استطاعت الإختباء في أول باب مجاور .. غادرت متسللة خلف مينار الشابة التي صارت عظمة حادة تكاد تثقب بلعومها منذ غادر اخيها .. صارت تتحكم في كل شيء .. لم تترك لها لحظة تتنفس بها .. لدرجة أنها رفضت كل رجل تقدم للزواج بها .. كانت :" لا اريد الزواج .. يكفيني وجودي مع أبي ".
هرعت المرأة الطويلة الأنيقة الثياب نحو غرفة في بداية الرواق .. دلفت هاتفة :" مروة ألحقي أختك ".
سقط الثوب الأسود من يد المراة الواقفة أمام الخزينة الكبيرة .. هتفت في المقابل بينما عينيها تتلوا آيات الانتظار :" هل مات ؟!!".
طوحت لها كفيها تطلب منها المساندة :" لا .. لقد طلب ابنه من ابنته العقربة .. وقد وصل لتوه . ماذا أفعل ؟!!".
مالت المرأة الخمسينية نحو الأرض ترفع ثوبها الأسود . مهمهمة بهدوء :" وماذا نفعل؟!! .. نحن نحضر أنفسنا لجنازة حسن العيسوي .. ماذا نفعل غيرهذا ؟!!".
انتفضت كفي المرأة الأصغر هاتفة :" أنت الأخرى لا تزيدي الطين بلة بإرتداءك الأسود .. دليني ماذا لو أصر يتحدث في الماضي ؟!!".
رفعت الأخت رأسها للخلف .. جعدت انفها رافضة الفكرة :" الأسود هو ردائي منذ مات زوجي وهاجر ابني .. أدلك على ماذا ؟!!.. ماذا كنت تفعلين مع شهاب الشاب المندفع ؟!!.. مدمن .. ماذا تفعلين معه؟!! .. فر يومها وابتاع لنفسه و.. ثم عاد ومات بعدها .. مالك تكبرين الموضوع أكثر من اللازم ".
هتفت في حذر مرعب :" أنت تعلمين أننا كنا نعلم أنه يلقي بالأدوية التي أمر بها الطبيب حتى تجعله قادر على التخلص من ادمانه .. وكنت اتجاهل عن فراره من الغرفة .. وكذلك لم أُعلم أباه بالصديق الذي كان يلتقي به أسفل في المنطقة الخلفية".
قبضات أختها ذات الشعر الأشيب من الجانبين ارتاحت على كتفيها تطلق لها صوت يخرسها :" هسسس .. هسسس لم يروهم وهم يسرقون .. رأوهم وهم يتقاسموا الغنيمة ".
همهمت بعدها بصوت خفيض يحثها على الهدوء :" اذهبي لزوجك الآن .. لا تتركينه مع ابنيه .. ستظلين على تماسكك .. نفس القصة .. لا تبدلين فيها حرفًا".
دفعت يدي اختها من أمامها هازئة :" كيف هذا ، وابنته لا تتركه حتى اثناء النوم .. لقد وضعت لنفسها فراش على الأرض .. لدرجة انها طردتني من غرفتي أمامه نظر لي وكأنه موافق على ما يحدث ..قالت لي ليتك تستخدمين غرفة أخرى حتى يجد أبي متسع في الفراش .. لقد سمعها ولم يتحدث .. لنا أسبوعين أعمل مثل الخادمة ".
تقدمت نحو النافذة العتيقة متمتمة نحو أختها :" لو كان لديك طفل منه ما جرؤ أحدًا على منازعتك .. الخوف الآن أن يترك وصية لابنه ويمنحه كل شيء "
ضغطت السيدة الأنيقة الملبس على شفتيها بأصابعها بطريقة كلطمة لا تصدر عن سيدة مجتمعات راقية .. بينما أختها عادت تهمس بعتاب لائم للكون كله :" لكن ماذا نفعل في حظك التعيس يا اختي .. حظك تعيس حقاً.. الأول فضل عليك ابن اخيه المعاق ..ولم ينصت لك حتى تتمتعين معه .. والأخر ظل هنا في هذا المنزل الغريب الذي لا يمكن بيعه أبدًا .. أحيانًا أشعر أن الله قدر عليك الفقر.. يملك الرجال حولك المال ويضنون به عليك أختي تغريد ".
غمغمت تغريد في ضيق باذخ .. تتذكر كيف نصحتها أختها أن تجلس معها تمرض زوجة الرجل المريضة .. وبعدها بعدة شهور .. كات توجهها نحو الرجل نفسه .. رجل وسيم وثري .. أفضل من يكفل لها الحياة .. سيصيبهما الثراء معًا .. نجحت جميع خططهما ، ولم يكتب لها شيئاً من أملاكه كما كانت تأمل .. فقط يحق لها استخدام ما يلقي لها به من فتات حتى مجوهراتها التي ابتاعها لها في خزينته البنكية :" غالباً حسن جلب ابنه حتى يكتب له كل شيء ".
ضربت أختها صدرها براحتها بينما تتوجه نحو النافذة .. تلتقط هيئة الأخوين .. اخيراً خرج صوتها مؤكد :" من لقاء الأخوين هذا يؤكد كلامك .. خاصة لم يدعك تسمعينه وهو يطالب بعودة ابنه .. لولا تلصصنا عليهما ما علمنا ".
وضعت المرأة كفيها على شعرها تعيد ترتيبه .. هامسة :" ماذا أفعل يا مروة ؟!!".
استدارت لها اختها تهمهم .. بينما اصابعها أنطلقت في اشاحات متكررة :" هيا أذهبي لزوجك .. هادئة .. دعيهم هم يخطئون .. أنت اجلسي تحت قدمي زوجك .. هيا وسوف نتصرف على حسب ما يستجد من أحداث ".
وعادت تحدق في الأخوين المتعانقين .. وكيف يتمسكا ببعضهما البعض من حيث هي تهمس بصوت لم تدرك أنه خرج مسموعاً:" ربما حان وقت الذهاب لوتين لقد تخطت العشرون الآن ..أليس كذلك يا تغريد ؟!!".
نظرات الحنين برقت داخل عينا الأخت فتمتمت في تنهيدة طويلة :" وتين الآن في اعتاب الخامسة والعشرين .. آآه يا مروة كم افتقدها ".
استدارت اختها من حيث هي تحدق في أختها الناضجة :" ذكرت لك في الماضي أن نخطفها ، ونجلبها تعيش معك .. كانت الآن تأقلمت مع المنزل ومع كل شيء .. لكنك رفضت ".
تنفست ببطء .. في قلة حيلة غير طبيعية :" لم يكن نعيم سيتركها.. ولا هي كانت سترضي التواجد في مكان دون ابيها .. نعيم رفض أن اصحبها معي كل مرة أقرر الحضور لأكون جوارك عدة أيام أريح أعصابي .. وبعد الطلاق لم يكن يوافق أبدًا على تركها معي حتى لساعة واحدة لو طلبت هذا ".
زفرت انفاسها محرقة محيطها ثم اكملت :" حسن نفسه لم يكن يريدها لو طلبت منه ".
همهمت اختها بما تعلمه :" الحق يقال بعدها عنك كان نعمة .. هذا ما جعل سوق الزواج يمنحك رجلاً بقدر حسن العيسوي .. من كان يرتضي الزواج من مطلقة ومعها طفلة .. حسنا فعلت بتركك إياها هكذا عشت سيدة هذا القصر ".
رنت نظرة للكتلة البشرية التي تحركت في الأسفل .. فصارت اثنين .. تتقدم مينار أخيها رافضة ترك يده .. تجذبه للداخل .. انتفضت مروة :" هيا أذهبي لزوجك حتى لا يظنا أننا كنا نتآمر عليهم ".
تحركت المرأة ذات الملامح الجميلة نحو الباب .. تقض نوم النائم بضربات كعبها على الأرض .. فضلت الحركة نحو الدرج لتكون في استقبال يمان بنفسها .. تثبت لنفسها عدم خوفها من أطفال الماضي .
تستند على حاجز الدرج الخشبي .. تحاول التشبث بكل ما أوتيت من قوة بتلابيب شجاعتها المفقودة .. فلم تكن تحيا بها الأعوام الماضية .. فقط جرأة ناقصة سببها عتاب ولوم غير معلن من عيني مينار الشابة التي بقوة صارت هي سيدة المنزل .. حجزتها في زاوية ضعيفة تحدها قواعد جديدة أتت على هوى أبيها فسلمها مقاليد أمور كثيرة حتى الشركة التي يملكها .. صارت معه فيها وخارجها .
عندما وصلها ضجيج أصواتهما رسمت ابتسامة مشعة بادعاء جيد التواجد :" أخيرًا عاد الطير المهاجر لعشه الهاديء ".
إعلان وجودها جعل الضيق يطل من عينا دخانية .. وقبل أن ينطق لسانه كانت أخته ترد لها الصاع صاعين كما أعتادت بعد ان تبدلت بسبب التوتر الدائر حولها :" كان سيكون أهدأ فعلاً بدون لمساتك الفنية الغير مستحبة ".
ابتسم لها أخيها في ادراك ان الحياة لم تكن سهلة عليها ثم اجاب :" واضح جدًا أن عودة الطيور المهاجرة تزعج الحدأة ".
برقت دمعة في عينيها تتمنى أن تخنقهما معاً .. لكن العداوة ليست من فراغ .. عاكستهما ، فلتنل ما تستحق .. ثم عاد المكر يدور في عقلها ليكون لها الحظوة همهمت :" من الواضح أن الحياة كانت قاسية فقد زالت ابتسامة عينيك ".
بدأ يتحرك نحو الدرج في ثقة كانت مفتقدة منذ لحظات .. لكن ما يغضب هذه يسعده هو بالتأكيد .. متمتماً بوضوح :" الحياة دائمًا قاسية .. لكنها تمر على الأقوياء بنجاح ".
كأنه يتهمها بالضعف .. لا بل يتوعدها الإنتقام.. ارتفعت قامته خطوات نحوها بدا شديد القوة .. رفيع المقام .. مهيب كأبيه تمامًا.
أطل وجه رجلها من خلفها .. هامسًا بكل ما اوتي من قوة .. صوته ضعيفًا خافتًا لكنه وصل جليًا حتى آذن صغاره الصقور :" يمان ".
التفت زوجته خلفها في انهزام ساحق من تلك المواجهة المسموعة .. حاولت إتخاذ موقفها المتوجب منه .. مدت يدها نحوه .. لكنه أعرض عنها .. اشاح كفها بكفه في ضيق باذخ داخل مرآة روحه .. جعلتها نظرته القاسية تحترق مكانها .. بينما ولده هرول نحو أبيه .. ذات الدرج الذي قطعه في الماضي راحلًا عاد يقبل عليه حتى يكون مع أبيه الذي وشمه العمر بالضعف .. مد كفه نحو صغيره الذي تلقاها في مساندة مرحبًا يقبلها بشفتيه بإشتياق .. ثم جذب أبيه نحوه داخل حصنه الصدري .. بينما السعال الحاد بدأ يقطع انفاسه مع كل لمحة إنفعال .. مما جعل القلق يسود لمحة زمنية داخل عينا ولديه .. ولوم حاد من صغيرته يرنو على شفاهها :" لماذا يا والدي ؟!!.. ألم يحذرنا الطبيب من الحركة .. لماذا أصبحت عنيد هكذا ؟!!".
ابتسم لها أخيها متمتمًا.. فيما يداه تحيطان والده يعيده لغرفته في مساندة :" أبيك عنيد من يوم ولادته يا مينار .. العناد ليس جديد عليه .. سنرى ما به .. وما بها صحته .. من اليوم ساتولى علاجه بنفسي .. لست طبيبًا هكذا من فراغ ..لست أسمًا فقط ".
في كل خطوة كانت يده تشدد اكثر على والده الذي لم تترك عيناه لحظا صغيره .
كانت تخطو خلف سعادتهم تحمل قلقها الزائد من القادم .. تخشى هذه القوة الجديدة التي بدى فيها زوجها كأنه قد استرد عافيته في عينا ابنه ، وبين حصن عضلاته الدافئة .
***********
بعد ساعة كاملة**
دلفت لأختها التي ما ان رأتها حتى صرخت فيها :" اذهبي لزوجك يا غبية ".
أغلقت الباب خلفها وتقدمت تجلس جوار أختها هاتفة في ضيق :" الباب مغلق عليهم .. منذ تناولوا الطعام ".
القلق يرسم خطوط شديدة على ملامحها .. تستطرد :" عاد الهاديء كصقر ينشب مخالبه في وجهي .. لم يعد كما كان غضوبًا فلا تنصحيني بتركهم يخطئون .. لأنهم لن يفعلوها .. كل كلمة مدروسة .. لم يعودا صغار .. ولى هذا الزمان .. أبيهم كان ينتظره .. حتى لو أخطأ فلن يرى فيه خطأ يذكر .. لقد آن أوان انتصارهم .. ربما نصبح بلا مأوى قريبًا".
مررت أختها اصابعها على ذقنها متمتمة في جدية :" لماذا أنت زوجة لك نصيب من الآرث .. ثم من لها ابنة شابة وجميلة كابنتك لا تظل بلا مأوى يا حبيبتي .. لابد يا تغريد ان تجلبي وتين هنا .. هي فرصتنا الوحيدة للبقاء .. يكفي فقط أن نعلم أنه غير مرتبط بأحدهما حتى لا تصعب مهمتنا ".
طارت عيني تغريد الواجمة نحو النافذة تستقل الريح نحو الماضي حيث تركت صغيرتها طفلة لم تكمل عامها السابع بعد .. تحمل حقيبتها الجلدية على كتفها وحقيبة بلاستيكية فيها بعض من ملابسها تخطو خارج المنزل هاتفة لنعيم في احتراق الهدف منه وضعه في زاوية الإختيار النهائي :" سأترك هنا حتى أريح اعصابي .. لقد تعبت منك ، ومن المعاق ".
صرخ زوجها نعيم فيها مؤكدًا لها أن لا إختيار له .. ولعبة الإختيار في يديها هي :" لو غادرت يا تغريد لا تعودي .. فستكونين قد مت بالنسبة لي ".
حدقت فيه غاضبة .. كانت قد جمعت أمرها على إجباره أن ينفذ ما تريد .. استخدمت حبه لها في لي ذراعه حتى ما عاد يهتم بعنادها المستفز بعناد أكبر من حبه لها .. لكنها لم تشعر بهذا الشيء غرورها تسلط عليها ان حبها داخل قلبه لن يموت أو تخمد جذوته .. غادرته في جدية تدرك داخلها أن الإنتصار قادم .. نصائح أختها لم تأتي من فراغ ودومًا تحقق نتائج قوية .
خرجت من باب المنزل الداخلي وجدت صغيرتها السعيدة تمكث في أرجوحتها اليدوية الصنع من إطار السارة الأحمر الحشوة .. كم تمنت أن تكون في أرجوحة من مواد أفضل .. لكن فقرهم هو السبب في اختناقهم جميعًا .. بينما المعاق يكمن خلفها يدفعها بمقدار لا يسقطها .. حدقت في عينيه حاقدة .. طريقتها جعلته يرتبك .. فلم يجيد التصرف .. ترك وتين مكانها .. انزوى خلف الشجرة التي تحمل الأرجوحة .. يكاد يحتضن لحائها الجاف حتى لا ترميه بنظرة أخرى .
رأتها وتين مستدركة أنها مغادرة هتفت نحوها :" امي أين ذاهبة ؟!!.. ومتى ستعودين ؟!".
بنف الغل والحقد الذي أودعته قلبها هتفت :" اعتبري أمك قد ماتت من اليوم .. حتى ينفذ أبيك كل مطالبي ".
اغتمت ملامح الطفلة .. مادت ملامحها في استفسار حرق جوفها فهمست به :" كيف تموتين .. وأنت تتحدثين معي .. أنت هنا غاضبة مني .. هل فعلت لك شيئًا أمي ؟!!".
نفضت يدها مطوحة إياه للخلف بقسوة شديدة ثم تفت في ضيق :" أنا ميتة في هذا المنزل .. ميتة بين جدرانه .. حاولي إلا تموتي أنت أيضًا".
لكزة قوية على مرفقها جعلتها تشهق خوفًا عائدة للحاضر المخيف أكثر .. بينما أختها تمسد وجهها براحتها هامسة :" اسم الله عليك تغريد .. لابد لك من التخطيط حتى تضعي خطوات لزوجك ، وتمهدي له الطريق حتى تجلبي وتين هنا .. نحتاجها للغاية .. فهي سبيلنا الوحيد للبقاء ".
همهمت تغريد بمفاد الإختصار من كلمات أختها :" الوحيد ".
عقبت اختها ، وهي تجمع شعرها ذي الخطوط تحت غلالة صغيرة من الحرير:" نعم الوحيد .. اتدرين لو ابنتك خالية دون إرتباط .. وجاءت هنا .. الشباب ينادي بعضه.. الشباب له قلوب يميل للجميلات .. وابنتك في الماضي كانت جميلة .. مؤكد حالياً صارت أجمل ".
عقبت تغريد مستفسرة :" ما معنى كل ما تقولين يا مروة .. لا أفهم ".
ابتسمت ابتسامة مائلة متمتمة :" شابة جميلة وشاب قوي .. حب وزواج .. هذا السبيل للبقاء لو قرر زوجك وضع كل شيء في يد ابنه العائد .. وقتها لن يطرد أم زوجته أو حتى خالتها ".
كانت تربت على صدرها في هدوء .. جعلت تغريد تنظر لوجهها كأنها تستدرك ان الزمان سيعيد التاريخ من البداية .. أليست تلك كانت خطتها .. الإقتراب من حسن .. والكيمياء ستتحرك وحدها حتى ضمنت مكان لهما .. بلا أي مجهود .. زيجة عادية لمدة سنتين حتى غادر ابنه .. بعدها انقطع ما بينهما من خيط مودة .. صارت الغربة هي درب حياتهما الزوجية .. لا كلام ولا حتى تعاطف .. حتى الاحترام ذهب مع المهاجر .. ثمانية اعوام فقدت فيها حقوقها واحدًا تلو الأخر.. إلا الطعام والملابس حتى النوم صار في غرفة أخرى .
لم تعرف بما تجيب .. حقًا قد افتقدت وتين ابنتها جدًا.. لكن وتين نفسها هل ستغفر لها ؟!!.. وهل سيغفر لها نعيم إصرارها على الطلاق وكل ما تبعه من مشكلات مادية حتى انتهيا .. هل يغفر لها زواج بأخر ؟!! .. كيف ستجد طريقًا لابنتها بدون المرور على أبيها ؟!!.. كيف يا ترى؟!!.. وهل وتين خالية فعلًا ؟!!.. وهل سترتضي باقتراح خالتها التي لا تعرفها !!".
عشرات من الأسئلة كلها صارت تطعنها في عقلها تبحث عن أجوبة .. وكلها لا تملك منها شيئًا .. كلها بيد وتين .
***************
الأجواء بدأت يخيم عليها الظلام في هذه القرية الساحلية .. تتحرك على الشاطيء بروح حرة شعرها الحريري الطويل يتطاير حولها في سعادة غامرة يشاركها حريتها لأول مرة .. تدورمع صديقتها .. تتشابك ايديهما تدوران في فرح .. تتردد ضحكاتهما في الشاطيء البكر الغير مأهول في هذا الوقت من السنة ..تهرولا نحو الشاطيء تارة خوفًا من البلل عندما تلحقهما الموجة فتصطدم بساقيهما وتعاقبهما بالبلل .. فتتساقط أطراف ثوبيهما فيها قسرًا .. تدغدغ الرمال اقدامهم وتكاد تسحب الأرض من تحتها .. تصرخ خشية السقوط .. بينما صديقتها تسقط فعلًا.. وتدحرج مع المياة .. نظرت إليها ثم كافحت معها حتى استقامت في وقفتها .. صخب سعيد .. روح غسلها اللعب في الماء بحرية .
تهرول هنا وهناك مع صديقتها .. كانت تشبة حوريات البحر التي تخرج لتتلاعب بالعقول في هذا الوقت من أصيل الشمس الصفراء .. ظلالهما تجلب السرور لمن يراقبهما في هذا المكان .. هناك من لاحظ وجودهما وظل ينظر إلى جمالها بنظارته المكبرة من بعيد .. من فوق منزله المتواراث .. هتفت صديقتها داخل ثوبها الأزرق الداكن بفعل البلل .. بينما اصابعها تعيد جمع شعرها الأشعث تحت غلالة حريرية صغيرة مبللة هي الأخرى :" هيا بنا نعود يا آنسة جيلان .. قبل أن يسود الظلام ونضيع طريقنا للمنزل ".
نظرت للقرص البنفسجي من الشمس التي مالت أكثر لتغفو داخل البحر .. انتفضت مكانها مدركة أنه قد آن أوان العودة لسجنها الذي لا تستطيع رفضه .. بدأتا تتلمسان طريق العودة إلى منزل عائلتها في جنح الظلام الذي كسا المكان برهبة مسرعة .. تهمس خادمتها في خوف متوتر :" آنسة جيلان . سيقتلنا البيك أباك !!.. أو أخاك نفسه لو علم أننا خالفنا أمره وخرجنا ".
وجدت وجيب قلبها يعلو خلسة في دقات رعب :" نفيسة .. اشتقت للبحر .. تمنيته منذ وقت طويل .. منذ نلت شهادة الثانوية من عامين ، وأنا في المنزل مختنقة .. لا أجد غير الجدران انظر إليها .. حتى رواياتي التي أقرأها ما عدت قادرة على أخفائها من أبي .. دومًا مصيرها الإحتراق .. متى أخرج من هذا السجن؟!! ".
غمغمت نفيسة تشد على مرفق زميلة طفولتها وسيدتها بذات الوقت :" هم يخشون عليك .. البلدة صغيرة لكن يجاورها صحراء كبيرة مترامية .. يخافون ضياعك فيها .. كما أن تقاليد عائلتكم قوية صارمة .. لو تتذكرين جدك وماذا كان يفعل في أي خادم يخالف أمره .. كان يرميه خارج المنزل ويأمره الرحيل بعيدًا ما كان احد يجرؤ مخالفته حتى أباك نفسه كان يرتجف أمامه ".
همهمت جيلان في محاولة لجمع شتات ثوبها المبلل مع شتات عقلها تذكرت جيلان والدتها التي لها أعوام لم ترى فيها عائلتها منذ تزوجت ودلفت للبيت الكبير .. كم سمعت جدتها لأبيها تقول المنزل له باب واحد للدخول فقط .. المرأة تدخل ولا تغادر إلا على قبرها .. صرامة جدتها أكبر بكثير من قسوة أبيها الذي يحتضنها أحيانًا .. كل من بالمنزل خانعات .. لا يعجبها هذا .. لكنها مضطرة للتحرك في إطاره .. تسير خلف خادمتها التي تدرك الطرق خيرًا منها .
سمعت صوت عربة من التي يجرها الخيول .. ارتجفت في هذه الحارة الضيقة خشيت أن يكون أخيها قد تفقدها مستدركًا خروجها بدون أذن منه .. تجمدت مكانها .. لم تكن من هذا النوع الذي يلتقط الظلال في الظلام .. انصتت لصوت رفيقتها :" اسرعي يا آنسة .. هرولت نحو الصوت خاصة مع الصمت الذي سبق النداء .
اصطدمت بحائط قوي .. ادركت أنه شبح شخص ما أو ربما طيف من الأطياف التي كانت تعتقد انها تحوم بالمكان كحكايا الجدة .. ابتعدت للخلف حتى لا يقبض عليها .. كادت تتعثر وتسقط لولا يد عريضة قوية العظام احاطت بخصرها مانعة الإختلال .. خرج صوتها على شكل صرخة قوية مما جعل هذه اليد تجذبها أكثر مع صوت هاديء :" ما بك ؟!!.. من انت؟!!.. لماذا تصرخين؟!!.. هل أصبت ؟!!".
خرج ضوء ضئيل من مقدمة هاتف هكذا رجحت عندما انطلق الضوء من مقدمة ثقب صغير .. مرر الضوء على جسدها يراقب متفحصاً هامساً بحنو غريب عليها :" هل اصبتِ؟!!".
قبضت على ركبتها التي تضررت من الحركة المفاجئة .. بينما هو يتبع يدها بضوء هاتفه .. مال نحوها يضع اصابعه على يدها .. لكنها نهرته .. تراجعت اصابعه .. صوته اخرج اعتذار بسيط لم تتخيل انه سيصدر من رجل امامها يومًا:" آسف .. كنت اريد فحص الاصابة ".
همهمت في آسف :" لقد لويت ركبتي .. لن اصل للمنزل في موعدي ".
ادركت صديقتها غيابها عندما تلمستها بالقرب من المنزل فلم تجدها.. علمت صعوبة الوضع من سيارة السيد فواز الأخ الجسور التي كانت تجتاز مؤخرتها بوابة المنزل الكبيرة .. بدأت تتراجع قبل أن يراها .. باحثة عنها بصوت خفيض :" آنسة جيلان .. أين أنتِ؟!!".
وضع الرجل الطويل الضوء تحت ذقنه حتى تراه ، بدا لها مرعبًا كجني خرج من المصباح .. انتفضت صارخة تتراجع للخلف .. همهم بضجيج صاخب متقطع الأحرف :" لس.. لست .. مس..مسخ ..لهذه الدرجة ".
خجل غريب اعتراها .. جعلها تحدق في قسماته عندما ابعد الهاتف امتداد ذراعه فسقط الضوء موضحًا بلا تمدد لملامحه .. حدقت فيه جيدًا .. ثم همست بهدوء تريد فقط مجاملته بتعجل ساذج :" نعم أنت وسيم ؟!!".
وعت لكلماتها فأحمرت خجلاً شاكرة الله على هذا الظلام .. ارادت الغياب بسرعة .. لولا خشيتها الضياع .. عادت تسمع صوت رفيقتها يهمس في الظلام .. تنفست براحة غريبة :" جيلان ".
همهم في لطف وخجل ينام داخل عينيه مع اهتزازة صغيرة من رأسه وكأنه يتراقص بنعومة :" أهي أنت ؟!!".
حركت رأسها في هدوء هامسة :" نعم أنها رفيقتي نفيسة ".
تمتم في جدية مريحة وذات النظرة الخجول تطل في ملامحه وهذه المرة مع ابتسامة واسعة :" اسمك معناه الفوز .. لكن من سماك هكذا ظلمك .. أنت وتين ؟!!".
رددت الأسم الذي راق لها :" وتين .. وتين ".
حدقت في ملامحه وجدتها تتميز برجولة اكثرها طيبة .. حتى حجم رأسه الكبير الذي يحمل شعر أسود ناعم يتساقط على جبينه ميزه عن غيره من الرجال فدائمًا من تراهم مجعدي الشعر.. ما ميزه أكثر عيناه تحمل طيبة .. نعومة .. تقدير .. هو شيء لم تكن تراه في عيون رجال اسرتها القساة .
ارتجفت في وقفتها المطلعة والتي يساء تفسيرها .. لم تجد غير النداء :" نفيسة أنا هنا ".
لاحت ظلال ملامح جسد صديقتها التي ادركت مكانها في ظلال الأضواء الشحيحة التي أتت من المنازل المجاورة .. هرولت نحوها هامسة :" هيا آنسة جيلان أخاك عاد للمنزل لن يفوته غيابنا ".
قبضت راحتيها على صدر ثوبها متمتمة برعب يرتعد قلبها قبل بدنها .. بينما نظراته تراقب تصرفها في آسف حقيقي :" سيضربني.. ربما يقتلني ".
حاولت الرفيقة الوفية مهادنة الخوف لتهذيب حواشيه .. همهمت :" سوف نقول له أنك كنت بالحديقة حتى لا يعلم ".
انصت لما يقال مستدركاً ما يحدث من خوف متمتمًا برفض متقمص دور الناصح بينما يجاهد لتواصل عبارته :" الصدق منجي .. حبل الكذب قصير .. عيناك ستفضحانك .. سيعلم اخاك من عينيك .. لماذا يرعبك إلى هذا الحد من هو ؟!!".
تمتمت الخادمة مسرة إليه بأسم أخيها وكأنه كاف للخوف :" يا سيد عقل .. أخيها هو فواز عياد ".
اشار نحو الطريق حيث منزلهما المنشود :"صاحب حديقة الموالح في شرق البلد ".
اشارت له الخادمة بيدها ليخفض صوته المرتفع :" نعم هو.. الانسة اخته الصغرى ".
مالت جيلان نحوها مشيرة برأسها نحو منقذها :" اتعرفينه ؟!!".
عقبت رفيقتها بإجابة :" نعم .. هو السيد عقل ابن السيدة نعناعة نبتاع منها اللبن كل يوم ".
حرك رأسه في اهتزازة مائلة .. جمع كفيه متحدثًا :" هيا فوق العربة .. سوف أصل بكما للمنزل .. لدي موعد مع السيد فواز ".
حدقت فيه برفض كامل .. بينما نفيسة بدأت ترتعد من ملابسها المبتلة .. مما جعله ينظر إليها مستطردًا يحثها بلطف :" انها ترتعد .. انها مريضة ".
.. تحرك نحو الفرس العربي الأصيل يهمس في آذنه .. يداعب وجهه بحنو وكأنه يقدم إليه توضيح .. ثم قفز نحو العربة بقامته الفارعة انحنى نحو الجانب يمد يده لها حتى يجذبها .. بالفعل وضعت يدها في يده مطمئنة إليه .. كيف لا وعيناه تنطق بالبراءة .. رفعها في ضوء الهاتف الذي كان في يده الاخرى لتستدرك أين تضع قدمها .. غمغمت رفيقتها التي تسلقت العربة من الخلف .. متخذة مكانها بينهما عندما استوت جيلان جالسة على المقعد الخشبي ذو الحشوة الجلدية الزرقاء :" أفضل شيء أن الكهرباء قد قطعت عن البلدة .. لن يرانا أحد .. عندما نصل سنغادر ، ونجلس في الحديقة نسقي الورود ، فتغرق ملابسنا".
فهمت جيلان المغزى من خلف كلامها هذا .. تقبلته مبتسمة .. بينما الرجل هتف في براءة طفولية :" ستمرضين وتين .. لا تغرقين نفسك في الماء ".
ضحكت بغتة من مجرد خوفه عليها .. تمتمت في خجل :" من وتين ؟!!".
عادت الكهرباء فأضأت الأعمدة في الشارع أمامهم.. اجابها في ابتسامة بريئة تتجول في عينيه التي يرتفع فيها الخجل :" أنت وتين".
ثم أشار للضوء الساطع :" الكهرباء عادت .. لا تغرقين نفسك حتى لا تمرضي ".
حركت رأسها في ايماءة طاعة ثم استفسرت أكثر :" نعم من هي تلك ؟!! أو ماهو وتين هذا؟!!".
حك جبينه بيده .. ثم عاد من تفكيره مردفًا :" وتين شريان القلب .. وتين نهر الجسد .. نموت بدونه ".
تمتمت هامسة في اعجاب مستغرب :" من أين لك بالمعلومات؟!! ".
ابتسم بخجله وراحت عيناه تبرقان في محاولة الثبات :" من الكتب ".
شيء داخلها جعلها تضع يدها فوق يده تربت عليها مؤكدة :" أنت طيب يا سيد عقل .. شكرًا".
ظل ينظر لراحتها التي اشعرته بالدفء .. فرفعتها بعيدًا في حياء.. وضع راحته يمسد شعره عدة مرات .. متحدثًا بصدق ما يشعر به :" أنت جميلة جدًا.. يا وتيني".
وصلت العربة عند جدار المنزل مما جعل نفيسة تدخل في ظل المقعد الأمامي .. بدأت تهمس لجيلان :" آنسة جيلان .. وصلنا .. انزلي هنا سريعًا".
هبطت من الخلف ، وتحركت جيلان تتبعها خلفًا حتى تتوارى عن قسوة أخيها .. تحملق في هذا الشاب البريء الطيب داخلها تمنيات ولدتها شخصيتها الحالمة أن يكون هو قدرها بعد أن كان فارسها المنقذ.. يكفيها طيبته .. فهي معه صارت محمية من نظرات الرجال التي تواجهها في عقر دارهم نفسه من بعض الذين يعملون أو من يحضرون للزيارة من الأقرباء وأصدقاء أخيها ومعارف أبيها .. لا تعرف لماذا هذا الشاب هو من لفت نظرها من المرة الأولى .
بعد أيام ظلت تنصت لأبيها يتحدث عنه .. وعن مجهوده في أرضه وفي تربية حيواناته لدرجة أن أبيها قد استعان به ليساعده في إنشاء المزرعة الحيوانية التي قرر إقامتها .. سمعت أخيها يهزيء منه قائلًا في غيبة فاضحة لسوء سلوكه:" هذا الآبله قد وافق أن يساعدنا في تنظيم المزرعة حتى أول إنتاج لها .. لو يعلم أننا سننافسه ما مد يده لنا ".
كانت تتحرك تعيد ترتيب الإستقبال حول والدها صامتة تنصت فقط لطريقته المتجبرة التي تبغضها.. ارتجفت يدها عندما انصتت ووعت على من هذا الكلام من فيه ابيها :" عقل المنياوي لا يفكر بهذه الطريقة .. هو يمنح بلا شرط .. لو تراه كيف يعمل في المزرعة كنت علمت أنه من هؤلاء الدراويش ذو الكرامات .. قطعة أرضه من أجود الأراضي .. تجاور مزرعتنا ، ومزرعة العزازي .. أفضل من أراضينا ".
طوح أخيها كفه للخلف مشيحًا في استنكار للآمر:" أظنه لو علم بنوايانا سيقتل مواشينا بالسم ".
انتفض قلبها من هذه القسوة لتنصت لصوت أبيها :" لقد أوضحت له أننا نعدها للتصدير .. وألقيت له اننا قد نجعلها لو عجزنا للإنتاج المحلي .. اتدري ما كانت إجابته ؟!!".
وضع أخيها الأوراق التي في يده أمام الأب مستفسرًا بهمهمة لا تعدو طقطقة صوتية .. مما جعل أبيها يروي فضولها من هذا النقي :" اجابني بأن الرزق بيد الله .. هو من يمنحه لكل فرد أو يمنعه بنفس الوقت .. وأنا على قناعة بأن الله يرزقه لطيب نيته ونقاء سريرته ".
دلفت أحدى خادمات المنزل الكبير تعلمهم بوجود ضيف :" سيدي.. السيد ندا العزازي يريد مقابلتك .. أشار لها أخيها أن تغادر القاعة بسرعة .. تحركت تعدو خلف الخادمة في ثوبها الحريري الذي يتماوج حول ساقيها الهشة .. كادت تصطدم بهذا الرجل النحيل الأسمر الشعر لولا تراجعها للخلف خطوة ما كانت تلافت هذا التلامس .. تحركت اصابعه بلا وعي منه نحوها لكنها حدجته بنظرة لاذعة جعلته يتراجع خطوة للخلف حتى تمر .. عيناها مقابل عينيه قوة وتحدي .
خطت من جواره فارة من نظراته التي لم تستريح لها .. شعرت بأنه يعريها من ملابسها في نظرته تلك .. شعور بالغثيان ضرب معدتها .. هرعت نحو حمام الطابق الأرضي فورًا .. لا تعلم لماذا صورته البغيضة وهو يمس جسمها أصابتها في مقتل .. هكذا تصورت بعدها عقل وهو يداعب خصلات شعرها بانامله .. ملئها شعور بالراحة .. خرجت من الحمام تبحث عن والدتها حيث هي في مكانها الطبيعي تشرف على طعام عائلتها بنفسها كأي زوجة أصيلة .. وجدت نفيسة تهتف نحو سيدتها :" سأذهب لجلب الحليب سيدتي .. كانت السيدة نعناعة تتحدث معي عن الزبدة والجبن .. قبل أن تبيعها لأحد أخر ".
ليقابلها صوت أمها تجيب :" ابنة حلال السيدة نعناعة .. تعلم احتياجاتي أكثر مني .. نعم نحتاج .. مثل كل مرة .. أطلبي منها وهي سترسله مع عقل ".
دلفت حيث أمها هامسة مترجية :" أمي أريد الذهاب مع نفيسة .. أشاهد البلدة .. منذ انهيت دراستي وأنا اجلس في المنزل .. في الماضي كنت اشاهد الطرقات من خلال نافذة السيارة .. من أجل خاطري دعيني أخرج ".
نظرت لها أمها مومأة برأسها بالرفض معللة هذا التصرف بما يفوقها :" حبيبتي .. أباك من عقلية صعبة .. لن يسامحنا لو خرجتي .. أنت تعلمين كم يخاف عليكِ".
عادت تقبل وجنتيها .. وتربت على كتفيها في خضوع مؤكدة :" سأذهب مع نفيسة لجلب اللبن .. هي تقول أن المزرعة قريبة جداً.. وأبي معه أحد الرجال لن ينظر لغيابي حتى يفرغ منه ".
بدأت أمها تدير عينيها في المطبخ .. تقلب الموضوع في رأسها .. ثم اندفعت بطيبة الأمهات :" اذهبي لكن .. لتأتي سريعاً ".
ثم رفعت سبابتها نحو نفيسة هاتفة :" جيلان في أمانتك يا نفيسة .. لا تتأخرا في الحضور ".
لأول مرة تنظر لملابسها قبل المغادرة في المرآة الجدارية .. لأول مرة تهتم أن تكون جميلة في نظر أحدهم .. ربما التمرد في روحها ظهر نتيجة كبت أعوام طويلة .
في المزرعة **
كان يجلس فوق فرسه يحنو عليه هاتفاً في رجل يحمل ملامح شبيهة له :" يا نعيم .. الحيوان لو ضربته سيكرهك .. اجعله يحبك يا أخي .. هكذا .. صار يربت على عنق الفرس من حيث هو يعتلي صهوته .. وصوته لا يخرج بتقطع زائد .. بل لا جدال على صوته الطبيعي .
همهمت من حيث كانت :" سيد عقل".
استدار وعلى ثغره ابتسامة لا تجد أجمل منها في أي مكان .. جذبتها بسحر اللحظة .. نعم هذه اللحظة التي قرأت عنها في كل الروايات الرومانسية .
" وتيني ".
اندفاع صوته بنعومة وصلها يخجلها ويجعل وجنتيها كالشمندر .. قفز عن الفرس تاركًا لجامه في الأرض مما جعل أخيه يأخذه عنه .. اشار نحو وجنتها مستفسرًا :" لقد احمرت وجنتيك .. مثل طفل صغير ".
وضعت كفيها على خديها تواري الإحمرار المباغت .. كيف لا وهو يهديها لقب هام مضافًا إليه ملكية خالصة تنسبها إليه .
سألها في اطمئنان عليها :" ماذا فعلت مع أخوك ؟!!.. لا أظنه قتلك فأنت أمامي ".
ابتسمت من هذا الاهتمام المفتقد مجيبة بصدق :" لم يعلم بخروجنا .. كما لن يعلم الآن ".
علق بابتسامة :" لا تكوني مثل ايميلي برونتي .. إن الطاغية يسحق عبيده ، ولكنهم لا ينقلبون ضده ، إنما يسحقون من يلونهم في المرتبة".
هتفت في دهشة عندما تلى أمامها هذه المقولة :" واو .. كيف علمت هذا تبدو .. تبدو ".
ابتسم لها يجيبها :" خجول .. خجول قليلاً.. لكن.. لكن لست غبيًا ".
هتفت في محاولة اعتذار :" لا .. لا .. لم أقصد .. أقصد أنك فلاح بسيط .. فكيف هذا ؟!!".
اجابها وهو يخطو داخل الأرض يتوغل أكثر نحو مكان قصي قليلًا:" من الكتب .. فيها لا شيء بسيط .. القراءة هي السمو .. تعال لتعرفي ".
جمدت مكانها عندما وعت أنها تسير خلفه كبلهاء حقيقية .. مما جعله يفتح لها النافذة لترى الكتب في صفوف في كل مكان .. رفوف كثيرة غير مرتبة .. لكنها كجدر من الكتب .. شيء جعلها تدهش أكثر .. كان صوته هامسًا يقاطع دهشتها :" رواية ايميلي مرتفعات ويزرينج احفظها كاملة .. هي من جعلتها تصل للخلود ".
همهمت في دهشة :" قرأت كل هذه الكتب ؟!!".
عقب في ابتسامة يهز رأسه بتكرار :" نعم .. نعم .. كلها.. كلها ".
غمغمت في حزن :" كنت اقتني نسخة .. لكن أبي وجدها في غرفتي .. حرقها ".
اتسعت عيناه في دهشة :" حرقها .. حرقها .. لماذا ؟!!.. لماذا؟!!".
اشاحت بأصابعها للبعيد مما جعله ينظر بعيدًا .. ثم تحدث معها :" سوف أكتب على باب غرفتي :" أنه في نفسي أكثر مني ".
ادركت انه يقصدها لكن كيف تستفسر لا تعرف .. ليتها تستطيع الوصول لحاسوب أخيها .. لتعلم ما يقصد عن طريق الشبكة العنكبوتية .
غمغم في ارتباك :" هنا .. ساعلقها وتيني ".
اشار اعلى باب الغرفة على مساحة فارغة .. لم تجب فقد حضرها صوت رفيقتها التي نسيتها كليًا خلفها :" أين أنت يا آنسة جيلان .. اتصلت الهانم .. سيدي فواز سأل عنك ".
ارتبكت بمجرد استدراكها انها صارت مكشوفة .. هرولت من أمامه هاتفة لنفيسة :" هيا بنا .. هذه المرة سينحرني ".
أيام مرت بها .. كانت تضع وجهه في جميع أبطال رواياتها .. الطيبة التي رأتها في عينيه كانت هي ما تتمناها في فارس أحلامها .
تكررت اللقاءات التي كانت تصنعها تحريها خطوات الصدفة .. خرجت تبحث عن الصدفة يومياً مع رفيقتها تبتاع اللبن من مزرعته .. خرج من الأرض عندما لمحها يمسح كفيه في سرواله الكاكي القديم لدرجة التمزق مرحبًا بابتسامة عينيه الصافية :" يا أهلا بست البنات ".
مائلًا برأسه قليلًا.. يواري الخجل خلف طيات نظراته .. متمتمًا بأحرف خجولة أكثر منها متقطعة :" نعناعة تقول أعترف لك .. وتيني ".
سألته في تردد :" اعترف يا عقل .. بماذا تعترف ".
عقب بصدق خجول النظرة .. يبعدها عن مرمى بصرها :" أنت في نفسي أكثر مني يا وتيني ".
ابتسمت لم ترى أرق من هذا الإعتراف .. صمتت ثم غادرت بسرعة .. لا تعرف بما تجيبه .. وهو يضعها داخل نفسه .
*************
بعد اسبوع إضافي **
لم تصدق صوت أخيها الذي دلف غرفتها هاتفًا :" يبدو أنك لا تجذبي سوى غريبي الأطوار .. عقل المنياوي يطلب يدك ".
لأول مرة تسمع السخرية من طيبة الرجل .. غضبت من أخيها وقسوته .. ركضت نحو أمها تعانقها .. تحتمي بها .. فما كان منها سوى أن تحدثت باقتراح راق للجميع عداها :" سوف أقيم حفل نسائي حتى تراها النساء من القرى المجاورة.. ربما تعجب أحداهن .. وقتها سنجيب عقل أنها مخطوبة".
ارادت الرفض هي يكفيها حنان هذا الرجل .. لا تريد ان تعرض في سوق النخاسة تحت أسم زواج صالونات.. قالت لأمها :" لن احضر هذا الحفل .. لا أريد ".
وبدأ الجميع يشد في قلبها من طرف .. كانت معارك حامية الوطيس .. سعدت بنفسها عندما صارعت فيها ..ربما لأن عقل هو وسيلتها للتمرد .
دلف أخيها يعقب بسعادة :" يال حظك الشديد .. ندا العزازي طلبك للزواج ".
وقتها ادركت الفرق بين الرجلين .. انتفضت مكانها نعدتها تلتوي في غثيان شديد .. هامسة في ضيق :" لا ".
ثم ارتفعت حدة الرفض لتكون اختيارًا :" قد اخترت عقل المنياوي ".
امتدت يدها تحمي وجهها وكأنها تستعيد تلك الصفعات مرة أخرى .. ثم وضعت اصابعها على ساقيها المجموعتان أمامها .. بنفس الوجع .. لقد قيدها أخيها في فراشها كبقرة وصار يضربها كل يوم .. كل لحظة ألم كانت تزيدها عنادًا وإصرارًا على رفض ندا العزازي والإقتران بعقل المنياوي .. الرجل الصافي القلب الذي حملها داخل نفسه أكثر من نفسه .
اندفع ابنها نحو باب غرفتها كثور هائج لا يحكم التصرف :" أمي .. انتهينا .. كل شيء صار تحت تصرفه بورقة منحها له أبي .. ابي قد اصابه الخرف اكيد ".
خرجت من شرودها اليومي .. كل ليلة تجلس هنا في غرفتها تجتر الحنين .. تسوم نفسها أسواط العذاب .. وتسومه معها .
وارت نظراتها من زين حتى تمحو دمعاتها .. ثم همهمت به :" أنت المخطيء .. فقد بلغني كل ما حدث ".
انتفض غاضباً:" منه بالطبع .. كيف صدقتيه ؟!!".
مدت نحوه كفها لتأخذ أصابعه تجلسه جوارها في هدوء :" كل فرد لابد له من معلومات .. وأنا لي عيون بالداخل .. هذا اهم شيء لك .. أجعل كل الداخل تحت عينيك .. اصدقاءك من الممكن أن يساندوك في معرفة كل شيء يدور في القرى ".
انتفض واقفًا .. في حقد :" آه يا امي .. لو رأيتيه اليوم كيف وعني تحت أسنانه ".
اشارت له أن يجلس .. هامسة :" أظهر له أنك ستكون معينًا له .. لكن في نفس الوقت أقلب كل حجر عليه .. أجعل الإدارة اصعب شيء له .. في هدوء وابتسامة باردة .. مع تقليب كل الأدارات عليه وكل المصالح الحكومية المختصة بمراقبة العمل .. سياحة .. صحة .. عمل .. ضرائب حتى الكهرباء .. كل شيء لابد وأن يكون طعنة .. خاصة هذه الفترة ".
باقي الفصل غدًا بأمر الله في نفس الوقت .
أنت تقرأ
أسميتها وطن (نصف الفصل الرابع كل اربعاء)
Romanceهو الوطن لا أعرفه، ولكن اعرفك أنت فقط هي بين الرفض، والواجب وجدت الحب