إلى أمي العزيزة، إلى كل شخص في هذا العالم

28 2 2
                                    

يفتح الفتى عينيه على ضجيج السيارات، لا يبدو منزعجا فقد ألفه، غير ثيابه، حمل حقيبته، ثم هم بالخروج، مر في طريقه بوالدته، ظل ينظر إليها و هي غير مبالية بوجوده، فتح الباب، أخفى تلك الابتسامة الكئيبة خلف قناعه المعتاد، وجه خال من التعابير، هادئ، لا مبال، ثم غادر المنزل. يمشي في الشارع المزدحم، الكل يمشي مسرعا، مرتديا قناعا ما غير مكترث بالآخرين، لكل عالمه الخاص، فيستمر الفتى بالمشي مشمئزا مما يراه، شخص يدوس على الآخر لضعفه، و شخص يرمي نفسه أمام الحافلة ليأسه، شخص آخر يهرول هربا من رجال الأمن لجرمه، فيبدو الفتى متعودا على هذه الحياة الكئيبة المتكررة. بعد مدة يرفع رأسه ليجد أنه قد وصل لوجهته، يدخل المدرسة ثم إلى الفصل، يجلس في آخر مقعد، منعزلا تماما عن الآخرين، لا أحد ينظر باتجاهه أو يهتم بفك عزلته، كما لو أنه شبح. بدأ الدرس الممل كالعادة، فتجد شخصا بالغا يسير في الفصل كما لو أنه إله، يفرض قواعده، يطرد من يشاء، يرفض التشكيك في معلوماته، كما لو أنه دائما على صواب. يمر الوقت ببطء شديد، فتمر تلك الساعات كأنها أعوام، تليها بعد ذلك استراحة من الجحيم، استراحة للبعض، و عذاب للبعض الآخر. يخرج الفتى لتلك الساحة المفتوحة حيث يجتمع الطلاب، لكن كالعادة يجلس وحيدا في أبعد زاوية عنهم، جلس يتأمل تلك السماء الواسعة، و تلك الطيور التي تحلق فيها بحرية، لم يدم ذلك طويلا، فقد قاطعه صوت الفتيان و هو يصيحون بكلمة معينة، كلمة هزت كيانه، هي الشيء الذي لم يعتد عليه أو يألفه في هذا العالم، كلمة تكسر قلبه في كل مرة، يترجاهم ليكفوا، لكنهم كالعادة لا يوقفهم سوى جرس استئناف الدرس، فيعود لمكانه المعتاد في الفصل. تدخل تلك المعلمة اللطيفة و الضاحكة للقسم، هي نقطة النور الوحيدة بالنسبة له في هذه المدرسة اللعينة، يمر الوقت سريعا حتى يرن جرس الخروج، تخرج المعلمة فيعود الفتى لوضعه المعتاد، يحمل حقيبته و يخرج متجها صوب المنزل، طريق العودة أصعب، فعلى الأقل عند توجهه للمدرسة صباحا لا يحتاج للتعامل مع الحجارة المرمية باتجاهه، فيبدأ بالجري كما يفعل دائما، هاربا و فارا من بطشهم، حتى يجد نفسه أمام الشاطئ. يجلس هناك قليلا، متأملا الأفق، و منبهرا بذلك اللقاء بين زرقة المحيط و بين اللون الذهبي للرمال، تمر عليه لحظات هدوء و سكينة، لكنها لم تدم طويلا، لقد عثر عليه فيلق الشياطين كما يفضل تسميتهم، يبدأ مجددا بالهرب من سيل الحجارة حتى يصل منزله أخيرا، لكنه ليس سعيدا أبدا، فها هو يزيل قناعه قبل أن يدخل، يجد والدته و هي في نفس المكان، ترمقه بنظرة غاضبة، ثم تتجه نحوه حاملة حزاما جلديا، تصرخ في وجهه، كيف له أن يوسخ ثيابه كل مرة بسبب اللعب، تنهال عليه بالضرب و الشتم، لا يقول شيئا، فقط يقوم بحماية وجهه بكلتا يديه الضعيفتين، تتوقف عن الضرب فيسألها إذا انتهت أم لا، تخبره بتعبها، فيعانقها و يذهب ليأكل قليلا ثم يمشي صوب غرفته الصغيرة، يغير ثيابه المتسخة ثم يستلقي على السرير. يغمض الفتى عينيه، ثم يفتحهما ليرى أمامه شريطا لكل ما حدث طوال اليوم، يبكي قليلا، يلعن حظه العاثر، يتوعد العالم بالانتقام ثم ينام.
يستيقظ في اليوم التالي على ضجيج السيارات مجددا، يغير ثيابه، يحمل حقيبته، ثم يهم بالخروج، يمر في طريقه بوالدته، يطيل النظر إليها و هي غير مبالية بوجوده، يفتح الباب، يخفي تلك الابتسامة الكئيبة خلف قناعه المعتاد، ثم يغادر المنزل. يتوجه صوب المدرسة، يجلس وحيدا مجددا يعد الساعات حتى فترة الاستراحة، يجلس متأملا السماء، حاسدا الطيور التي تطير بحرية، يقطع تأمله فيلق الشياطين، يعود للفصل و يتمنى لو تدوم تلك السويعات للأبد. يرن الجرس، يخرج هاربا خشية وابل من الحجارة، يذهب للشاطئ كعادته، يتأمل المحيط، ثم يعود للمنزل فارا كما العادة. تستقبله أمه بحضن من الحزام الجلدي، يعانقها عندما تنتهي من ضربه، يتناول طعامه ثم يدخل غرفته، يغير ثيابه، يخرج ورقة من حقيبته و يبدأ بالكتابة: "إلى أمي العزيزة، إلى فيلق الشياطين، إلى كل شخص في هذا العالم، شكرا لكم، شكرا جزيلا لكم على جعلي أكره هذا العالم الجميل، على جعلي أكره نفسي أكثر من كرهي لكم، لقد أدركت أن هذا العالم لا يحكمه سوى قانون واحد، قانون الغاب، و ربما للغاب قوانين أكثر من قوانينكم، أنا ببساطة الأضعف بينكم جميعا، أو ربما الألطف، فلا مكان للطف هنا، إما أن تقتل أو تُقتل، و أنا أفضل أن أُقتل على أن ألطخ يداي بدمائكم القذرة، أفضل أن أُقتل على أن أتحمل عبء ذنوبكم، أفضل أن أُقتل على أن أصبح شخصا عديم الرحمة مثلكم، لو أنكم نظرتم قليلا للسماء و تأملتموها، لوجدتم أنكم لا شيء مقارنة بهذا الكون الجميل، أمي، عندما أعانقك فما ذلك بحب و إنما شفقة، آه كم أشفق عليك عندما أراك تجلدينني لتنفسي عن همومك، فتتعبين قبل أن تنفسي ولو عن ذرة صغيرة مما تشعرين به، حالك هو حال كل من في هذا العالم، تنحنون خوفا أمام من هم أقوى منكم و تنتقمون ممن هم أضعف منكم، فماذا يفعلون؟ هل يجابهونكم؟ طبعا لا، بل يبحثون عمن هم أضعف منهم للانتقام كذلك، هذا هو حالكم، و من اليوم أنا لعنتكم التي ستلاحقكم حتى مماتكم.
نفسي الحبيبة، أنا آسف، لقد حملتك فوق طاقتك، حان الوقت لأحررك من هذا الجحيم، أعتذر أنني لا أستطيع الصبر أكثر، لقد صرت أكره وجودي في هذا العالم، أتمنى أن تتفهمي قراري، فلا رغبة لي في الانضمام للعبتهم الحقيرة، و لا طاقة لي للاستمرار في كوني ضحية هذا العالم، أتمنى أن ألقاك في عالم عادل، عالم حيث نكون سعداء معا".
ينتهي الفتى من كتابة رسالته، يضعها فوق سريره، ينظر للسقف، يجد حبلا معلقا كان قد أعده من قبل، يقول في نفسه: هذه المرة لن أهرب، لقد عقدت العزم على الرحيل.

النهاية

(زكرياء البيضوري)

🎉 لقد انتهيت من قراءة إلى أمي العزيزة، إلى كل شخص في هذا العالم 🎉
إلى أمي العزيزة، إلى كل شخص في هذا العالمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن