البارت الثالث

19 1 0
                                    

قبيل الفجر أيقظني صوت ضجيج خافت إِقشعر له جسدي تخيلته من فعل الجن و رددت مراراً كل سورة أحفظها من القرآن على أمل إبعادهم ثم وبعد أن أمتلكت بعض الشجاعة فتحت عيناي ببطء مصدقاً أنني مُقبل على رؤية جني سيصرع منظره عقلي و يرديني قتيلاً لكن و على عكس كل توقعاتي كُنت أنتَ ، تكابد باحثاً في الأدراج ففضلت البقاء صامتاً و بقيت أتامل منظرك منهمكاً في البحث لدرجة أفقدتك الشعور بما حولك، كعادتك تعض على شفتيك كلما تأكدت من خلو الأدراج عما تبحث ينير وجهك ضوء الهاتف وبعد برهة ارتسمت خلالها علامات نفاذ الصبر على وجهك نهضت واقفاً و سرت خارجاً من الغرفة، نُظرت للسقف أفكر بما يجب عليّ فعله تنهدت مراراً مفكراً في سبب فضولي الكبير حولك! وما كادت تنتهي تنهيدتي الأخيرة حتى هرعت إلى الخارج محاولاً اللحاق بك تخطيت مدخل الصالة ثم عبرت برجلين حافيتين و أنفاس لاهثة باحة المنزل إلى البوابة الأمامية وقفت متفاجأ لرؤيتي عبدالله ممسكاً بهاتفه و قد أسند جسده إلى سيارته الحمراء المركونة أمام منزلنا،رفع الأخير رأسه بعد أن نبهه صرير الباب على وجودي أعتقد أنه ظن أنني أنت فقد كان موشكاً على النطق ببعض الكلمات غير أنه أطبق شفتيه و آثر الإبتسام على الحديث، هو السبب الأول و الرئيسي دائما في جر سلمان خارج المنزل في أكثر الأوقات غرابة، حاول كسر الصمت بالسلام و السؤال عن الحال فأجبته بإيجاز ثم عاد الصمت مجدداً بيننا حتى قطعه الصوت الأجش لسلمان الخارج من المنزل وهو يسألني عن سبب خروجي هذه الساعة المتأخرة من الليل فأجبته بصراحة مطلقة أنني خرجت أبحث عنه بعد أن أزحت جسدي عن الباب مفسحاً له المجال للخروج ثم عاود سؤالي عن السبب فكان الصمت في نظراتي الساهية جوابي الوحيد، لوهة جال في بالي ذات التساؤل لماذا خرجت أبحث عنه! فسلمان ليس طفلاً اخشى عليه من الأذى ولا كائناً جاهلاً غير عاقل أخاف ضياعه، بادلني النظرات ثم تجاهلني سائراً إلى سيارة عبدالله بعد أن طال عليه صمتي بينما ودعني عبدالله بإبتسامة ثم صعد هو الأخر إلى السيارة مخلفاً موجة من الغبار الناتجة عن الحركة السريعة للسيارة وبقيت واقفاً بمفردي أمام الباب، بعد بضع ثوان تجمدت خلالها كتمثال شمع أمام المنزل سرت للداخل مقفلاً الباب خلفي و في باحة المنزل وقفت أشعر بالغثيان من سخف ما فعلت ، ينعصر قلبي كلما إسترجعت نظراتك الباردة تجاهي و جمودك المؤذي، أتسائل كيف تحولت لهذا الكائن عديم الإحساس تبدو مثل صخرة متحركة بلا رغبة في الحديث أو الشعور، شخصك الجديدة تدفعني دائما للشوق إلى ذاتك القديمة تلك التي لم تتمكن الحياة قط من لمسها أو تمريغها في الوحل، أتسائل مجدداً لو أن أوضاعنا تغيرت هل ستعود لما كنت عليه سلمان المرح اللطيف؟ حتى الجيران لاحظوا تغيرك وفي كل مرة يأتي ذكرك في أحاديث النساء تردد جميعهن كم أصبحت جلفاً لا تطاق ورغم أن أحداً لا يسلم من نميمتهن لكنني تمنيت لو تبقى بعيداً عن افواههن القذرة، حملت رجلاي و عدت للداخل و في الغرفة لاحظت للوهلة الأولى الضوء الخافت الصادر من أسفل بطانية رائد، بالتأكيد هو يقضي ليلته يحدث تلك الساحرة لم يتركها رغم إنني أخبرته مراراً كم أشعر بعدم الاطمئنان لها، لا تحبه بحق أنا متأكد لكنني لا أستطيع الجزم أيضا لما تدعي حبه، لربما أعجبت بجماله لكن لا تنوي الإستمرار معه و هذا مؤكد، أتجاهله و أضع رأسي على الوسادة محاولاً معاودة النوم، ركضي المستمر خلف الجميع و محاولة إنقاذهم بلاهة لا جدال فيها لأنني وأن كابدت لن أستطيع فلكل واحد منا سقطاته و عثراته التي لن ينقذه منها أحد و أن حاول، ما هي إلا دقائق و صدح صوت آذان الفجر في الحارة ، زفرت بهدوء سأنام بعد أن أصلي الفجر قلت في نفسي.
في وقت الضحى أيقظتني حرارة الغرفة القاتلة فنهضت مترنحاً إلى الحمام محاولاً إنعاش عقلي الخامل بالمياه الباردة ثم خرجت للمطبخ بحثاً عن ما يؤكل، هناك كانت مريم و أمي تتعاونان لإعداد الغداء، عند دخولي اخفتت مريم صوتها و رغم ذلك ظلت نبرة التوسل في حديثها واضحة، كانت تتوسل أمي طلباً لحاجة ما لكنني لم اسأل حتى لا أحرجها ما دامت لا ترغب في أخباري و لخلو الثلاجة مما يؤكل قررت شرب كأس ماء عله يسد جوعي حتى موعد الغداء بينما أنظر إلى الصالة حيث تسير زينب ذاهباً و إياباً و في يدها مبخر وضعت فيه أجود ما في منزلنا من بخور فاليوم الجمعة و التطيب من سنن الرسول مثلما يقول أمام الجامع، تآمرها أمي أن تذهب بالبخور إلى حامد و تطيبه قبل ذهابه للمسجد، متأكد أن رائد قد خرج قبل الجميع للذهاب إلى المقبرة حيث أعتاد أن يلقي السلام على والديه و أخوته قبل صلاة الجمعة، رائد ابن عمي الذي فقد حياته بسبب حادث حريق ضخم شب في منزله راح ضحيته هو و زوجته و ثلاثة من أطفاله، ليلتها نجا مؤيد لإنه بات في منزلنا و أتسائل هل مؤيد محظوظ لإنه نجا من الموت أم أنه قليل حظ إذ فقد كل أفراد عائلته في ذات الليلة. و رأى أبي في مبيت مؤيد في منزلنا ليلة الحريق إشارة ربانية له فقرر كفالته و الإهتمام بشؤونه و من الغريب كيف وافق أهل والدته على ذلك لأن ابي السكير لا يؤتمن على زجاجة ماء فكيف بطفل! رغم ذلك لا أستطيع إنكار حب أبي الكبير لرائد و أهتمامه المميز به، يعيدني صوت أمي للواقع و هي توضح حاجة مريم الماسه للمال،صمت لدقائق محاولاً تذكر ما بقي في جعبتي من مال ورغم قلته لم أستطع جرح مريم بالرفض ، حركت رأسي إيجاباً مشيراً إلى إمتلاكي المبلغ رددت بعدها مريم كل ما تحفظ من عبارات الشكر ثم عاودت عملها بإبتسامة واسعة، و نهضت للاستعداد لصلاة الجمعة.
في المسجد أبحث بعيناي عن مكان حامد و اجلس بقربه ثم أعاود البحث على أمل رؤية سلمان لكن رؤيته تتعذر علي ، الله وحده يعلم أين أخذه عبدالله هذا المرة. يلقي الخطيب خطبة مملة بنفس المواضيع المعتادة عجيب لما لا يفكر في مواضيع أخرى أكثر أهمية أو لو يربط على قلوبنا بالحديث عن ضرورة الصبر على حيواتنا البائسة في هذا البلد الفساد. بعد الصلاة سلم علينا بعض الرجال و امتدحوا اخلاقنا الحسنة رغم سوء والدنا لكن قولهم ذلك ازعجني و ان كان فيه ثناء ، يتصرفون كالملائكة بينما هم أشر و أسوء من والدي على الأقل لم يأكل أبي مال يتيم ولا سلب أخوته ميراثهم ولا طعن الناس في شرفهم، ربما يكون أبي سكيراً لكنه أكثر طهرا من مرتادي المساجد.
عدنا بعدها سيرا على الأقدام إلى المنزل و بطوننا تقرقر فرحاً بالطعام اللذيذ طعام يوم الجمعة المميز، بعد أجتماعنا حول المائدة أخبرتنا أمي أن أبي ليس في المزاج المناسب للغداء الأن تبعها خلال ثوان معدودة دخول رائد العائد من المقبرة، القى السلام على الجميع ثم جلس بقربنا و بدأنا الأكل.عند العصر جلست على باب المنزل و في يدي علبة مشروب غازي أراقب المارة و أتسلى بالخيال حتى لمحت من بعيد سيارة عبدالله ، اثرت الصمت رغم فمي الممتلئ بسيل من الأسئلة و أزحت جسدي لأسمح له بالدخول بينما بقيت في مكاني أنتظر المغيب لأدعو الله في ختام الجمعة أن يلهم كل الأرواح المعذبة سبل السلام.

زمن البازلاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن