النص

48 1 0
                                    

ذاتَ مَرَّة فى الحُبِّ!
====
مقدمة..
الحُبّ!
هنا لن نستطيع التفلسف.
الحُبُّ منطقٌ؛ وكلٌ له منطقه الغير قابل للنقاشِ.
الحُبُّ عقيدةٌ؛ ولكلٍ عقيدته التي جُبِلَ عليها، إلا لو قرر التغيير، والتغيير هنا قد يكون أسوأ أو أحسن.
الحُبُّ لوثةٌ؛ ولو صدّقوها، هذى هي عقيدتها.
الحُبُّ كبصمةِ الإصبعِ، لا يتفق اثنان على معناه.
والصدق إن تجرّأ أحدًا على قولِه.. فسيكون أنه، ليس هناك بشر استطاع أن يصل لجوهرِ الحُبِّ، لمعناه الحقيقي، وموطنه الأصلي.
لذا، فلنكف عن التفلسفِ.

حزنها سيقضى عليها يومًا من الأيامِ، وحينها ستُعلَّق صورتها مصحوبة بشريطٍ أسودٍ ويُكتَب فوقها "شهيدةُ الاكتئابِ" وربما سُمّيـت قريتها باسمِها أيضًا.
مزقت الورقة التي خطّت فوقها كلماتها الفلسفية الأولى، ومعها بضع خصلاتٍ اقتلعتها من شعرِها قبل أن ترميها تحت قدميها.. إلى أرضيةِ الشارع الذي يقع فوقه سور السطحِ، الذي تجلس فوقه في هذه اللحظة، وتتدلى قدميها إلى الخارجِ.
جلسة عقيمة لا تصلح، بل لا تحتاج سوى للمسةِ إصبعٍ وتصبح بعدها في خبرِ كان.
وظلّت على حالِها بضع لحظات، عينيها أسفل على هذه الأوراق البيضاء أمامها بشررٍ، وكأنها تنتقم من كائنٍ معدوم الوجود.
أو رُبّما موجود!
والاختلاف هنا يكمن فى سبيلِ الوصولِ إليه، وهي لن تصل أبدًا.
حولها قيد يُدمي معصميها، ويكبلها في طريقٍ يبعد عن مبتغاها مئات الأميال، والسبيل الوحيد للنجاةِ هو المقاومة.
أما مقاومتها هي؛ فعبارة عن انزواءٍ على نفسِها يكاد يبتلعها في غيابةِ جُبٍّ ما.
الأوراق ساقطة أرضًا، أغراها المنظر..
خيالات كثيرة تساورها، لمَ لا تلحق بأوراقِها البيضاء؟!
فالأوراق لا تُخلَّد، وهي لن تُخلَّد، فلمَ لا ينتهي أجلها الآن؟ 
مَن هي في الأساسِ؟
صفر على اليسارِ؟
رشّة مِلح فوق طبخةٍ لا تنقصها؟
توبة طاغية وقت سكرات الموت؟
كلها أشياء لا أهمية لها، والأولى ألا يكون لها وجود.
لذا..
_براءة!
لذا ستبقى؛ فقط لأجلِه.
التفت.. النظرة غير سوية، والشعر مشعث، والابتسامة مهتزة كما قد عافتها الشفاه، والاسم بصوتٍ مشوش بالواقع، معطوب.. مهزوم بالوجع: 
_إسحاق!
ورغم أن الاقتراب في حالةٍ كهذه غير محمود العواقب إلا أنه لم يكن مجرد اختيار أو مجازفة.
لا مجازفة بينهما، فالأمر محفوف بالأملِ كما الوجع، بالحُبِّ كما التشتت، بالفطرة كما تحوطه لوثَة الواقع.
بالثقةِ كما انعدامها التام.
الأمر بينهما ليس له مسمى، وإن سُئل عن رأيه فهو يرى أن الحياة ليست عادلة، وهنا يحضره مصطلح شهير..
It's not fair.
وموقف بهذه الخطورة لا يتطلب سوى أن يندمج معها في هلوستِها، جنونِها الطاغي، فطرتِها النقية.
لذا لم ينهر، لم يعلق، ولم يرفض،
فقط فعل المِثل حين اعتلى السور جوارها.
الجنون لا يُعالج سوى بالجنونِ.
وكأن (جون ليجند) قصدهما في قولِه ذات مرة:
You crazy and I am out of my mind!
What's going on in that beautiful mind 
I'm on your magical mystery ride And I'm so dizzy, don't know what hit me
.But I'll be alright
_ما بكِ؟ ألم تستطيعي كتابة شيء؟
وهي لا تحتاج سوى لسؤالٍ كهذا منه لتستفيض بالإجابة، فقط منه دون غيره.
لذا فأنفك عُقال لسانها، وانطلقت جياده: 
_لا، لم استطِع، واليوم راودتني الرغبة أكثر مِن مَرّةٍ للانتحار.
بيدٍ تشبث بالسورِ تحته، وبالأخرى مسدَ على شعرِها الكالح، يهذب تشعثه الغير قابل للتهذيب، كما روحها الهمجية تمامًا دون جدوى: 
_ولمَن تتركينني حين تموتين؟
_لكَ الله.
_ونِعم بالله، أعظم مِن كل شيء وأي شيء، لكنني أريدكِ أنتِ بجواري.
ولم تعقب، فقط استمرت الأوراق المترامية على أرضية الشارع تتراقص أمامها بإغراءٍ شديد للسقوطِ،
نحو الهاوية.. دون هوادة.
_براءة!
اسمها بصوتِه هو كلمةُ السرِّ خاصتها،
وتعمُدها لحفظ هذا السرّ داخلها فى مَكمنٍ حتى مِن مسامع طبيبتها المُعالِجة كان رغبة واجبة التنفيذ، غير قابلة للنقاشِ،
خصوصية علاقتهما لا تُخترق.. أبدًا.
النظرة الزائغة أصابها بعض الاتزان، فقط البعض وهي تُحيد بعينيها عن الأوراق إلى عينيه.
تمّت المهمة بنجاحٍ،
وتمَّ الأسر.
ومِن ثَم خرج صوته الرخيم، الذي لا تعلم لمَ أصبحت حالتها النفسية مرهونة به مؤخرًا؟ سائلًا بكل الجمال الذي يحمله العالم، حتى لو كان موضع النقاش ليس محلًا للجمالِ:
_وهل تعتقدين أن الانتحارَ حلٌ؟
_وماذا بوسعي أن أفعل؟
والنبرة باهتة، تماثل النظرة، والكف المرتعش جوارها، لكنه تعلّم أن يتبع معها فطرته، وفطرته تحدثت نيابةً عنه:
_أحبيني!
My head under water
But I'm breathing fine
You're crazy and I'm out of my mind.
====== 
قبل عدة أشهر..
السير في دربِ الحُبِّ لم يكن إحدى خططه المفضلة.
درب متعرّج، غير مُمهد، وهو لا يليق به إلا الاستقامة.
"الرجل اللوغاريتمي" كما كان البعض يصفونه.
وهو أبعد ما يكون عن اللوغاريتمية والتعقيد، بل بساطته الذي بلغت حدًا غير معقول كان شيء يُنفّر ثلاثة أرباع بنات حواء منه.
الأنثى أحيانًا -أو معظم الأحيان- تتوقع مِن الرجل العبَث، وكونه لا يقترب لا مِن بعيدٍ ولا مِن قريبٍ منه، بل لا يجيده؛ كان يجعل محل الشك في كونه بشري على قدمين.
لكنه تعلّم ألا يلتفت، حتى أتتْ؛ فتحطّم معها مَنطِقه إلى شظايا، ولم يلتفت فقط.. بل انكفأ على وجهِه.

ذات مرة في الحب | دنيا محمد صقرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن