مناوئ القرن السادس عشر

3 0 0
                                    

كريشة بإمكان أقل نسمات الهواء أن تحملها إلى شتى بقاع الأرض. كخرقة مرمية اتسخت على جانب الطريق، خارت قواي وبت مهدود الداخل والخارج عديم الحيلة وفاقد الإحساس. خيمت من حولي نتف الثلج لتكسو الأفق وما فوق الأرض ببساطٍ أبيض كما لو كان معدًا لاستقبال ملاك من السماء، فأشع العالم بذاك اللون وتتغنى بنصوعه لتذكرني ألحانها بما كان يغرده طائر البيلبيرد قرب زهرة الهايدرنجا التي كنت أعتني بها والتي امتلكت ذات اللون الأبيض الذي غطى شوارع دوقية فاندوم.

قصرت الدنيا وخنقتني بضيقها فما وسعت الأرض بي إلا حين حططت هنا وقادتني أقدامي الراكضة الهوجاء دون أدنى ذرة تفكير حينها إلى حالي الآن. عصفت بي الحياة من جانب وأذاقتني الرياح القاسية والطقس الصلب بضع لكمات من الجهة الآخرى لأسقط مستنزف القوى وأنا أتسائل:

"متى آخر مرة وضعت فيها شيئًا في فمي؟ أكاد لا أذكر لأني لم أعد أحسب الأيام كما كنت أفعل سابقًا"

غشى الضباب رؤيتي وغيب مداي، خارت طاقتي وفقدت الإحساس بمحيطي تدريجيًا كما لو أني أذبل مودعًا الحياة بعد أمد قصير. أسأنتهي هنا؟ إذًا ماذا استفدت من تركهم إن كنت سأموت بسرعة في كلا الحالتين؟ ما فقدته من موتي هناك هو جنازة تكريمية سيجتمع فيها أشخاصٌ لم يسبق ولقيتهم في حياتي ليبكوا على جثتي ومن ثم ينتقلون لقاعة ضخمة في اليوم التالي ليقيموا مأدبة وكأن لا شيء قد حدث بالأمس!
ولو مت هنا كل ما سأجنيه أنني لن يعرف أمري وسأُنسى بل لن أُذكر على هوامش صفحات التاريخ حتى! هذا هو وجه الإختلاف الوحيد الذي يفرق بين موتتي!

"بني. آنت بخير؟ بني! لا تمت.."
كلمات عشوائية بصعوبة استطعت فهمها وتركيبها بجملة، قبل أن تنغلق عيني وأفقد الاحساس الكلي بكل ما يحيطني.

  • ━━━━━━❪❆❫━━━━━━ •

فراش ناعم ومريح ووسادة طرية. الجو معتدل عكس برودة الخارج تحت هذا اللحاف السميك والدافئ... لقد اشتقت لهذه النعم بمجرد تركها لبضع أيام! لكن كيف عدت؟!

قمت من الفراش بسرعة وجريت نحو الباب لأخرج! لقد هربت بكامل إرادتي في السابق ليعود كل شيء كما لو أنه لم يحدث؟ أيعقل هذا حتى؟
فتحت الباب بسرعة لأجد رجلًا بالغًا أمامي، لم يبدو كشاب أو عجوز. أقدر عمره بالأربعين رغم أني أعتقده أصغر. له شعر بني ناعم ومنظر مهندم. تقاسيم وجه ساطعة وعيون خضراء ناعسة. إنه ليس أبي بالطبع ولا رئيس الخدم! أقاموا بتعين خدمٍ جدد؟

"سعيد أنك استيقظت، أتفهم شعورك بالذهول لكنك مرهق ولا أعتقد أنه من الصحي لك أن تركض بعد استيقاظك مباشرةً. طلبت من الطباخ إعداد عصيدة لك لأنها الأخف على المعدة. أتمنى أن تستمتع بها ولا تخجل من ضيافتي"

مناوئحيث تعيش القصص. اكتشف الآن