شعرتُ بحركتها تتوقف فجأة، هذا ليس الوقت المناسب أبدًا، وقفتُ على أثرها التفتت إليها، نظرة عينيها غريبة، أراها للمرة الأولى، حدقتاها تتحركان حولنا بتردد، أنا أرى ما تشعر به، هل هذا صحيح؟ أم أنه وهم كعادة كل ما أرى؟
أخبرتُها بتوسل وقلبي يتمنى لو يكون أخطأ في تفسير تلك النظرة في عينيها: أشجان هيا بنا، الباب سيختفي، لو بقينا دقيقة أخرى لن نكون قادرين على رؤيته، سَنَعْلَقُ هنا، سنفقد أرواحنا للأبد كحال الجميع!
حاولت أن تفلت يدها وتتركني ولكن لن أسمح لها، لن أتركها وحدها تعاني هنا في تلك الجزيرة الموحشة، لن أتركها تفقد روحها بعدما طال بحثنا، همستْ بكلمة واحدة بصوتها الرقيق، كلمة واحدة شعر بها قلبي قبل أذني: ارحل.
- لن أترككِ!
ترقرقت دمعة واحدة يتيمة من عينيها وهي تقول: ارحل يا مازن، ارحل.
بالطبع لم استجب لها، فُتِحَ الباب فجأة فتشبثت بها جيدًا ولكنني لم أشعر بأي شيء بعد ذلك، بل وجدتُ أنني رجعتُ إلى لحظة البداية، إلى تلك اللحظة التي تفاقم بها كل شيء بداخلي...
من يدخل الغرفة سيراني نائمًا على الفراش باستسلامٍ تام، ولكن ما لن يراه أنني واقف أمام الفراش، أراقب جسدي الممدد عليه بعجز مع الكثير من السعادة، هذا الشعور بأنني في فيل أراقب فيه نفسي ممتع، هو ما يجعلني اتحمل ذلك التخبط الذي تواجهه نفسي، أعلم أن كل هذا لا يمت للواقع بصلة ولكنني أحب أنغمس فيه، أن أترك نفسي تطفو بين السحاب، على الأقل هذا الانفصال يساعدني في التخلص من الواقع والذي هو آخر ما أريد الوجود فيه.
رأيت والدتي تدخل الغرفة، كيف يمكن لانسان أن يكون منافقًا مثلها؟ كيف تدّعي أنها تهتم بي وباستلقائي هكذا فاقد القوى وهي تساهم بجزء لا بأس من حالتي تلك؟
جلست بجانبي ودموعها تغرق وجهها، لا أصدق دموعها، لا أصدق أنها تبكي من أجلي، دائمًا ما كانت دموعها وكل مشاعرها من أجله فقط، والدي هنا أيضً، دخل الغرفة بملامح منكسرة، وقف أمامها وهو ينظر إليها باتهامٍ قائلًا: أنتِ السبب مرة أخرى.
قالت باكية: أنت السبب، أنت من جعلتني أغرق في محيط الذنب الذي لم أستطع النجاة منه، تركتني وحدي أصارع الأمواج بلا أي وسيلة نجاة، فلا تبدأ في هذا، أنت تحمل جزءًا من الذنب أيضًا.
- ولماذا؟ لا شيء متبقي لخسارته، لقد ضاع منا أغلى من نملك.
أجمل ما أمر به الآن هو أنني منعدم الاحساس، لا أستطيع الشعور بأي شيء، وكأنني مخدر، أقدر فقط على مراقبة نفسي من الخارج، يفصل بيني وبينهم جدار زجاجي يجعلني أستطيع رؤية كل شيء من زاوية أخرى مختلفة، ولكن يظل هذا في النهاية مجرد شعور، غير حقيقي، ولكن ياليته كان، ليتني لا استيقظ أبدًا، ليتني لا أعود إلى الواقع لاكتشف أنه غادر وتركني بالفعل، رغم مرور سنوات عديدة على رحيله إلا أنني مازالت لا أصدق ذلك، رحل وترك لي هوة سحيقة مملوءة بالحزن تبتلعني بلا رحمة.
كيف يمكن أن تتحول السعادة الشديدة إلى حزن دائم متصل؟ كيف يمكن أن يتحول وجوده فجأة إلى عدم؟ أن ينطفئ بيتنا ويعمه الانفصال هكذا؟
والأهم لماذا كنت أجبن من أن أقرر الذهاب إليه؟
سمعت صوت والدي: أخرجي من دور الضحية هذا، فهو لا يناسبك أبدًا، أنا وأنتِ نعلم جيدًا خطأكِ!
لتصرخ: وأنت أيضًا أخطأت، لا تمثل دور الملاك فهو أيضًا لا يليق بك.
كيف وصلت علاقتهما إلى هذه النقطة؟
قطع ذلك المشد صوت طرقات على باب منزلنا، رمقها والدي بنظرات حانقة ورحل، دخل الغرفة رجلين يرتدي كل منهما بذلة خضراء أعرفها جيدًا، اقتربوا من جسدي الممد على الفراش وحملوه بكل سهولة إلى مكان أستطيع توقعه جيدًا، أشعر أنه من الأفضل لو استرخي الآن وأكف عن مشاهدة هذا الفيلم...
***
أجلس في ركن بعيد وسط تلك الأجواء الصاخبة والموسيقى العالية، الجميع يرقص، ويلعب، ويغني، ويمرح، كلهم سعداء والابتسامة تغطي وجوههم جميعًا فلماذا لا تستطيع أن تشعر بذلك؟
اقتربت فتاة بغيضة مني، أنا أكرهها وأكره اقتربها، دائمًا ما يكون اقترابها لسبب مؤذي مثلها، وبالفعل أخذت كوب العصير الموضوع أمامي وشربته بكل تلذذ وبرود يليقان بها، أكره أن يقترب أي شخص مما يخصني، فبدون شعور صفعتها، ولسوء الحظي كانت المشرفة تقف بالقرب منا ورأتني وأنا أصفعها بكل وضوح، فما كان منها إلا أن اقتربت وهي تنظر إليّ بحدة وبصرامة أخبرتني: اصعدي إلى غرفتكِ، الآن يا أشجان!
تهددني وكأنني أُطرد من الجنة، لا تعلم أنني كنت انتظر هذه الفرصة منذ بداية هذه الحفلة الباهتة، لا أحب التواجد وسط كل هذا الكم من البشر، أفضل التواجد بمفردي، أن أغرق في أفكاري وخيالي دون أي تشويش، معهم أشعر بقلبي يكاد يتوقف لا أستطيع تحديد إن كان هذا خوف أم نفور أم أنه خجل، ولكنني فقط اعتبر هذا مجرد عذاب بالنسبة إليّ.
أرى الجميع سعداء ولا أفعل سوى مراقبة سعادتهم بتعجب، لماذا لا أستطيع أن أشعر بمثل سعادتهم؟ لماذا أشعر فقط أن قلبي متحجر؟ وعقلي أيضًا يأبى التحرك والاندماج، أجلس فقط بعيد، وحدي، أراقب ما يحدث، أو ربما قد أنعزل قليلًا مع خيالاتي.
على ذكر الخيالات أعتقد أن هذا أفضل ما قد أهرب به الآن لأنسى ما تعرضت له بالأسفل منذ قليل، فأغمضت عيني باستسلام..
تأملت المكان حولي، الألوان المنتشرة في كل مكان خطفت بصري من الوهلة الأولى، شعرت برغبة قوية في التحرك، وأن أغرق وسط تلك الأشجار والأزهار المنتشرة في المكان، ظهر من بعيد رجل أربعيني، نعم ذلك الرجل الذي رأيته اليوم في الحفل يلعب من أحد الأطفال بحب، تمنيت للحظة أن يكون والدي وها هو يفعل الآن، لا أعرف من هو والدي الحقيقي ولكن هذا جيد؛ فأنا أستطيع كل يوم أن أكون ابنة من أريد، ركضت إليه بحماس وتعلقت بعنقه وقائلة: أبي.
- حبيبتي جميلة الجميلات.
- هل أحضرت لي شيئًا معك؟
- أحضرت كل ما تحبينه.
بقيت متعلقة به لفترة أحاول الحفاظ على هذا الشعور لأطول فترة ممكنة، ولعبت معه كما تمنيت، حتى شعرت أنني انتُشلت من هذا الحلم الرائع بقسوة، شعرت بمن يكبلني بعناية، وجدت المشرفة تقف عند باب غرفتي وهي تنظر إليّ براحة وكأنها تخلصت من حِمل ثقيل، ورجلان يرتديان زيًا أخضر اللون يضعان مثله حول جسدي بإحكامٍ، لم أشعر أنني قادرة على المقاومة، تركتهما يفعلان ما يريدان باستسلام، حتى أنني سرتُ معهما بكل سهولة وهما يأخذانني خارج الغرفة، بل وخارج المكان بأكمله..
أنت تقرأ
نوفيلا جاري البحث عن روح
Romanceترى ماذا ستفعل حين تستيقظ ذات يوم وتجد أنك تغيرت تغييرًا جذريًا، أنك سرقت، لم تسرق ساعتك أو هاتفك أو حتى نقودك، ولكن قلبك هو ما سُرِقَ منك، سُرقت منك مشاعرك والإحساس بما حولك، عقلك مغيبٌ لا يعمل إلا بجهد مضني، وسط قطيع لا يربطك بهم أي شيء سوى قلوبكم...