ابنة الخطيئة

35 0 0
                                    

متعثرة الخطى ، تشد على أسمالها البالية ، وجه شاحب لم يمسسه دفء الشمس ، تمشي بمقلتين غائرتين لا يرى بداخلهما سوى الضياع ، من ربيت بعيدا بالباحة الخلفية ، قابلت اليوم العالم بحزن مكسية ، القلب الرحيم الذي حنا عليها البارحة ، قد خرس و لم يعد للحنان مانحا ، روح نقية ، خرجت تجول البلدة الطاهرة ، بحثا عن بيت يحتويها ، عن رؤوف يمد يده نحوها .

بلدة بدا الكل فيها طيبا ، وجوه ناظرة ، و ابتسامات حلوة ، ظنت إليليا من بعدها أن العيش بينهم ليس بإعجاز ، و لربما معاشرتهم لن تكون بالأمر العسير ، فكيف لكائنات مستبشرة المحيى ، أن تعبس في وجه شخص لمجرد أنه لم يخرج يوما من رحم المعبد ؟

ضياء النجم الأبيض كان قاسيا على اليتيمة ، لم يرأف بها في أول لقاء لهما ، و الجوع صار يمزق معدتها و العطش حرق حنجرتها ، جلست لبرهة بعد أن أصابها الدوار ، بينما عيونها تجول حول وجوه الناس طالبة الرحمة ، و الجواب بدا قريبا.

توقف رجل بملامح سمحة ، يناظرها بفضول ، فهو لبحق مشهد غريب يشاهده ، تجلس فيه فتاة عارية الرأس وسط الطريق ، بجسد هزيل كخاصتها ، و وجه شاحب كالذي تمتلكه .

"هل أضعت الطريق ؟ "
نظرت إليليا بلا حول و لا قوة ، حاولت أن تجيب لكن الصوت خانها ، و ما كانت على الفصح بقادرة ، فاكتفت بهز رأسها بالنفي .

" ألا تملكين مأوى تعيشين به ؟ "

"م...ماء "
نبست متمتمة بصوت بالكاد وصل لمسامعه ، دخل الرجل لبيته لبرهة ثم عاد بكأس ماء ، أخذته إليليا من يده بسرعة ، لتشرب الماء في جرعة واحدة ، و لوهلة ، أحست أنها عادت للحياة من جديد

" ليس لي مكان لأعيش به "

رددت بصوت منخفض ، لتتحول بعدها ملامح الرجل من سمحة إلى مشككة ، فهنا ، بالبلدة الطاهرة ، كل له مأوى يسكن به ، و من لا منزل له ، فدار العبادة منزله ، إلا من طرد من رحمة الأعالي و حل به غضبها ، ما أشغل عقله بفرضية أنها من هكذا جنس ، و لم يسعه أن يتحقق من صحتها إلا عبر ختم الآلهة .

حمل رسغها ، و راح يقلب عينيه حوله ، تجهم وجهه في ثوان و قد غاب عن نظره ختم الآلهة ، ختم من دونه ، يفقد كل بني آدم حقوقه الآدمية ، و يصير التعامل معه ، كفتح باب نيران الجحيم الخالدة .

بصقة حلت بوجهها ، تلتها عبارات قذف و شتم ، لم تزر آذانها البتة .

" كيف لخسيسة مثلك أن تدنس بلدتنا الطاهرة ؟ كيف لك أن تطأ أرضنا المبجلة ؟! "

هسهس بغضب ، ثم عاد يبصق نحوها ، و بغتة ، استدارت كل الرؤوس نحوها ، الوجوه المبتسمة غدت وجوه كظيمة ، وجود إليليا كان كبقعة سوداء عكرت عذارة بياض المدينة ، مدينة لا تعرف للذنوب طريقا ، و أشد الذنوب شرا ، كان اقتراف الخطيئة .

حشد غاضب و عيون محترقة ، أصوات جهورية تقذف و تسب ، و أياد ترجم عارية الرأس كأنها شيطان ظهر فوق الأرض ، أفواه تبصق ، و أفواه تتضرع خشية من سخط الأعالي .

حملت إليليا نفسها ، و أسرت تجري لتنفذ بجلدها ، فالحجارة تطاولت على جسدها ، و الموت صار
يداهمها.


بغض حالك هذا الذي ينبع من قلوب تبتغي البياض، و بغض شديد هذا الذي تكنه البلدة الطاهرة لفتاة تجهل نسبها ، بغض شديد هذا الذي تكنه لفتاة لم ترتكب كبائر الذنوب و لم تلطخ جسدها بالدناسة .

لكن عذرا يا إليليا ، فالدماء التي تجري بعروقك نجسة ، تشهد كل قطرة منها أنك ابنة الخطيئة ، و لا يحق لابنة الخطيئة أن تخالط أبناء العفيفين .

Elilia | إليلياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن