الثالث

230 10 65
                                    

قبل ساعتين من الخبر كان هشام قد وصل إلى محطة القطار المتجه نحو القاهرة ، ما أن دست قدمه أول خطوة داخل المحطة حتى أخرج منديلاً ورقياً وانحنى يمسح بقايا الطين العالق في حذائه من الأسفل ، إن الطرق إلى المحطة أو داخل قريته عموماً ضيقة وعرة ترابية لا تساعد خصوصاً مع هذا الوقت شديد التقلب من السنة .

نظر مطولاً للجمع الغفير المتراص حول القطار الذى يوشك أن تتحرك عجلاتة حثاً منه على المغادرة والهرب من براثن الزحام العالق فيه ، ثوانٍ هي الفاصلة لينصهر وسطهم ويختفي تماماً وتمنى داخل نفسه باستماته لو أن مزيج مشاعره المضطرب ينصهر هو أيضاً ويريحه .

يعبث بداخله القلق ويهدأ من روعه الأمل ، يري الفشل يخرج له لسانه ويروضه الإصرار على النجاح ، يشعر بفرحة أمه القديمة به تشع من عينيها وشماتت أخوه الحالية مرسومة هازئة على فمه ، يحاول أن يدفع بنفسة دفعاً إلى الإيجابية علّها تنبع من داخله المرة التالية ، رسم بسمة مضطربة بوضوح وهو يشد بيده اليسرى علي حقيبته السوداء المتواجدة بين يده وجذعه .

ارتعشت يده بارتباك وهو يتذكر مصدر ذلك المال، هو ما أخذه أخاه نيابة من أهل قريته لرصف الشوارع وجعلها مستوية للحماية من حوادث باتت كالحدث اليومي بالنسبة لهم خصوصاً أنهم قرب فصل الشتاء ، وما أخرهم للحظات الحرجة هذه هو إنتظار جمعهم للمال بعد موسم الحصاد .

هل أستلفهم ليردهم عندما يُصبح ممثلاً كبيراً أم سيظل مختلساً لهم إلى الأبد ؟! سؤال شارد داخل عقله لا يملك إخمادة بإجابته .

تتصرده بعض العيون التي يعتقد فيها أنها تجني قوتها استعطافاً ، المشهد ذاته مراراً وتكراراً بلا أي تجديد أو مرونة للأفكار ، هناك طفلاً ليرقق قلوب الناس يصحبه امرأة ترتدي وبال الملابس المتسخة ويرسمان تعبيراً حزيناً ضائعاً لكنه يبقى أمام نظرته تعبيراً مرسوماً ليس حقيقي هذه إحدى الصور وأشهرها ، هناك أيضاً من يصحب معه عدة أوراق ممتلئه بالروشتات والبعض الأخر يُجود من عنده ويخفي يده أو قدمه أو عينه .

شغفه بالتمثيل يصاحبه عادته في مراقبة وجوه الناس لتبين مشاعرهم المكنونة من عيونهم ، يخمن قصة كفاحهم من تعرجات ملامحهم ويتعرف على سير حياتهم من إماءات وجوههم وعليه فهو يجلس مُراقباً ومُصنفاً لكل وجه ويتوقع قصته المختلفة ، أكثر شغفه للوجوه الشابة المتطلعه والوجوه التائهه الضائعه ويرجع كل تصانيفه للقلوب المؤمنة الراضية التي تباين عن القلوب المكفهرة القانطة .

طغي صوت صفير القطر الخاص به علي كل الضوضاء حوله ووقف الناس مستعدين بانتصاب لركوب علبة التونة المتحركة ، علبة خاصة بأكوام من لحم البشر ، كان القطار يماثل قطار الموت الفرق أنه ليس في مدينة الملاهي ولا تملك أحزمه أمان فربما تلقي حتفك فعلا ، تمنى لو أن الجهة المسؤله تضع لافتة كبيرة الحجم واضواء عالية تضوي تنبيهاً حولها ويكتب داخلها تحذيراً بالخط العريض بأنه لا ينصح لأحداً يملك الأدرينالين داخل شراينة أو لا يملك قطرة منه لا ينصح لأحد ابدا .

العقوقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن