1

93 8 3
                                    

ذات مرة أمسكتني والدتي من كتفي وجثت على ركبتيها أمامي تطالعني بنظرة لم أتمكن من نسيانها أبدا، كان ذلك عندما أخبرتها اني سئمت من كوني طفلا!، من كونها تعاملني كواحد!. هزتني بين يديها بقوة وثبتتني " صغيري أنت ستكبر ....وصدقني ستتمنى لو انك لم تفعل "

مرت ست وعشرون عاما منذ نبست بتلك الجملة ، لكني لا أنفك أسمع صداها يتكرر في عقلي كل يوم ، أتذكر ان ماقالته بدا لي في ذلك الوقت ككذبة ، ذلك النوع الذي يقوله الكبار ليقمعوا أطفالهم ، أتذكر أيضا أنني ازددت عزما على النضوج بعد ما سمعته ،فقط لأثبت لها أنها كانت مخطئة وأنني لن أندم !.

لكني فعلت ، حتما فعلت! ، يوما عن يوم كنت أكبر ، كبرت أنا وأحلامي وطموحاتي في وقت واحد ، لم تكد تسعني الدنيا ! ، أو هذا ما ظننته ، أريد أن أكون طبيبا ، لا بل مهندسا ... ماذا عن طيار ؟! تساءلت يوميا قبل خلودي للنوم ، حين كانت أكبر مشاكلي الثبوت على طموح وحلم واحد لأعمل عليه .

مرت الأيام تباعا ، شهورا ثم أعواما ، ومشاكلي تلك ولأسفي الشديد رافقت رحلة كبري! انتقلت من مشكلة واحدة إلى العديد منها .

في عمر التاسعة ظننت أنني حللت أكبر معضلة قد تصادفني يوما حينما استطعت ولأول مرة انهاء فروضي المدرسية بدون طلب مساعدة أمي! كان وهما جميلا ظني ذاك!.

في الثالثة عشر استطعت الفوز على أحد الأطفال في نزال أقمناه في حينا بعيدا عن مراقبة الآباء ، رغم أني كسرت سناً ، إلا انني كنت سعيدا جدا ، فغنائمي قد فاقت خسائري حتما ! لقد أصبحت رجلا يستطيع الدفاع عن نفسه ! أو كان هذا ما ظننته!

في الخامسة عشر كانت أكبر أحلامي ان أصل إلى ألانا ، أجمل فتاة في مدرستي ، كنت مأخوذا بفكرة كون حياتي تسير في الطريق المثالي وكل ما ينقصني هو حبيبة مثالية لإكمال المشهد !

لكن المشهد بأكمله تداعى ، في عمر السابعة عشر حين أدركت أن الحياة ليست وردية بالشكل الذي أراه ، أنها أسوء من أبشع كوابيسي، كان ذلك حينما قررت الذهاب في عطلة إلى الريف، منزل جدي بالتحديد .

ذلك الوقت الذي قضيته بمفردي هناك ، أنا والطبيعة برفقة كتاب وكوب مشروب ساخن ، كان مافتح عقلي على الحقيقة ، الحقيقة التي كنت غافلا عنها ومعتدا جدا بفكرة كوني أدمر جملة أمي تلك وأدحضها !! غافل جدا لدرجة أعمتني عن كوني أكبر بالفعل ولازلت لم أخطط لحياتي حتى !

لست أعلم إلى أين أتجه ، أخبرت جدي ذات صباح ، أتذكر إبتسامته جيدا، كيف أنه ربت على كتفي مواسيا " مرحبا بك في المجموعة ... لا أحد يعلم إلى أين يتجه يافتى " .

كانت تلك هي اللحظة التي يمكنني القول عنها وبكل ثقة أنها بداية نضوجي ، بداية إدراكي أن الحياة ليست كما تخيلتها قط !

في الثاني والعشرين من عمري كنت قد تخرجت لتوي ، مدركا أن أكبر إنجاز في حياتي لم يكن تخرجي ! إنما خروجي من نطاق التلمذة بكامل قواي العقلية والنفسية ... ربما هو ما كان الإنجاز حتما !

في الخامسة والعشرين كتبت ملاحظة ألصقتها على باب ثلاجتي كاتبا عليها " مهمة اليوم : البقاء بخير " ولم أنزعها منذ ذلك اليوم ! استخلصت الأمر متأخرا للأسف ، خذلت كثيرا، ضحيت بقلبي مرات ومرات ، ساومت بسعادتي وراحتي لشراء خاصة أناس لا أتذكر عنهم شيئا الآن سوى أن وجودهم قد آذاني .

أصدقاء تخلوا ، تخليت أنا أيضا عن بعضهم ، كان ذلك عندما استوعبت أنني استنزف بينما أسمح لهم بدخول حياتي .

يوما عن يوم عدد أصدقائي تقلصوا ، معارفي الذين كنت أقضي جل أوقاتي معهم صرنا نمر على بعضنا وكأننا غرباء ، الكثير من الإعجاب الذي لم أفصح عنه يوما لأنه لم يكن الوقت المناسب .

' ما الوقت المناسب ؟' تساءلت .

ربما كان الوقت مناسبا دائما بينما لم أكن أنا؟ .

في السابعة والعشرين انتقلت إلى مكان جديد ، بحثا عن حياة جديدة ، أو هذا ما أقنعت نفسي به ! كنت أخسر نفسي شيىا فشيئا ، أخسر هدفي في الحياة وشغفي ، هذا فرضا لو أنني إمتلكت واحدا أصلا .

في الثلاثين من عمري ، الآن ، أنا أقف أمام والدتي بعد أن انتقلت للعيش بجانبها ، علمت أن هدفي في الحياة هو أن أكون بخير وفقط أن أحافظ على نفسي فأنا أغلى ما أملك من بعدها ، أنني المشروع الأكبر الذي يستحق الإستثمار فيه ، الذي يجب علي تكريس وقتي من أجله فقط ولا شيء آخر .

أمسك يديها الآن واضعا رأسي في حجرها بينما تمسح هي خصلات شعري ، أمي ، ناديتها بخفوت ،" أتذكرين ما أخبرتني به حين كنت في الرابعة ؟ أنني سأندم عندما أكبر ؟، لقد فعلت أمي ، لقد فعلت " شعرت بإهتزازها إثر ضحكتها الخافتة ، لا بأس هي همست " لازال أمامك الكثير صغيري ".

_ انتهت_

لاتغادروا قبل أن تتركوا رأيكم هنا فضلا! .

رحلة ندمWhere stories live. Discover now