اللغة العربية في يومها العالمي

118 36 27
                                    


                   عبقرية البناء، وضرورة الأمن اللغوي
                             
    إن الحديث عن اللغة عامة هو حديثٌ عن الحياة؛ فالحياة ماهي إلا لغةٌ نمارسها استماعاً وتحدثاً وقراءةً وكتابة، وعندما يكون الحديث عن لغتنا العربية؛ فهو حديث عن الحياة المتجددة؛ باعتبارها لغة الماضي والحاضر والمستقبل، فغيرها من اللغات ينقرض ويموت في كل مائة عام، أما اللغة العربية فهي لغة باقية؛ فما قاله العربي قبل (1700) سنة نفهمه اليوم، كما أن الحديث عن العربية حديثٌ عن عبقرية البناء وشموخه وأصالته، وهو عنوان ليس للتفنُّن في التعبير، أو الرغبة في استثارة القارئ، وتهييج عواطفه؛ لاستمالته، وكسب مودته...كلا ليس عنواناً من هذا القبيل أو ذاك..بل متعةٌ لغوية عرفناها، وتجربةٌ عشناها، ويقينٌ رسم طريقنا، وعشقٌ تغلغل في شغاف قلوبنا، من المحيط إلى الخليج، تكسرت أمامه قرون المستعمرين، وانبهار المتغربين، فهل تجد عربياً لا يحفظ قول أبي القاسم الشابي؟:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة***فلا بدّ أن يستجيب القدر
إن كلمات أمثال البردوني والزبيري، وشوقي، وحافظ، ونزار قباني، والجواهري والشابي، وغيرهم تتخطى عامل المكان والزمان؛ لتصبح ترانيم على لسان كل عربي، فما بالك بالقرآن منهل العربية العذب، الذي جعل حتى المسيحين يحفظونه حباً في العربية:
إنا نحبك كي نبقى على صـلةٍ         
                   بالله، بالأرض، بالتاريخ بالزمن
أنت البلاد التي تعطي هويتها       
                  من لا يحبك، يبقى دونما وطن
بل حتى المستشرقين كان أول سؤال سألوه عندما نزلوا القاهرة، أين مكان تدريس القرآن؟ ليكون باكورة إتقانهم للغة العربية؛ مما حدا بفريق منهم؛ أن يعلن إسلامه دهشة وإعجاباً، وفريق آخر يكون منصفاً، تستولي عليه الدهشة، ويسيطر عليه الإعجاب بسيدة اللغات صاحبة الجلالة (اللغة العربية)، حتى قال أحدهم:" إن العربية مثل (فينوس) ولدت كاملة الجمال، واحتفظت بجمالها وكمالها وبهائها وحيويتها رغم تعاقب الأزمان، وتطاول الخطوب؛ وحين تنهض من كبوتها تعود كاشفة عن فتوتها وفتنتها وسحرها، وواعدةً بمستقبل مشرق"، أما المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكة) فقد سطّر يراعها كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب)؛ لتعلن للعالم أن الحضارة المعاصرة مدينة للعربية وعلمائها، في كل فرع من فروع المعرفة، وأنه كان لا بد من ظهور ابن الهيثم وابن سينا وابن حيان وابن رشد وابن النفيس والفارابي والخوارزمي والبيروني والرازي والكندي؛ ليرسموا بداية الطريق للحضارة الغربية في الفلك والرياضيات والضوء والهندسة والجبر والطب والكيمياء؛ بتمكن عجيب، ولغة عربية علمية سهلة طوعوها لمصطلحات تلك العلوم، حتى قال المنصفون إن العربية في العصر العربي والإسلامي المزدهر هي الينبوع الأول للعلوم الطبيعية!.
    ومن المؤسف اليوم أن يتم إقصاء اللغة العربية من  التدريس في الكليات العلمية في الجامعات العربية، باستثناء جامعة دمشق، وتقصيرنا هذا يدعونا إلى ضرورة الأمن اللغوي الذي يعادل الأمن الغذائي والمائي والعسكري والسياسي، والسعي لتمكين العربية من كل المجالات الحيوية، وتقويم التقصير في الوضع اللغوي في الوطن العربي عامة، وأن يترافق التخطيط اللغوي مع السياسي؛ ليرسم ما يجب أن يكون عليه واقع السياسة اللغوية في الوطن العربي؛ لأن الشعوب العربية أصبحت أمةً نكرة بين الشعوب لتنكرها للغتها.
وفي عصر العولمة تحتاج كل اللغات لتتحصن من القادم الجارف بـ(الأمن اللغوي)، فتلوح في الأفق ملامح غزو شرس يستهدف اجتياح اللغة، والشعوب تتوجس خيفة على أمن وجودها اللغوي، ولا سبيل للتحصين إلا بالأمن اللغوي، واستنطاق لغتنا في الإنتاج والإنتاجية، والبحث عن وجود الذات في اللغة؛ لنحفظ لوننا وكياننا، وهذا ما تقتضيه السياسة اللغوية التي يجب أن تتجذر في تربيتنا العربية.
إن كل أمة تقدس لغتها، وتكتب بلغتها الأم، وتترجم لها كل جديد؛ لأنهم  لا يريدون الانتقال إلى لغة غير لغتهم، بل ينقلون العلم إلى لغاتهم، وهذه سنتهم منذ أن فهموا دور اللغة القومية في التنمية البشرية، فأين مقام اللغة العربية؟ إننا أمة ممزقة بين الإنجليكشونية والفرانكفونية، وهناك من المؤسف فئات من أبناء العرب تدير وجهها وتبتعد عن العربية، ونحن نتساءل أين سيكون مقامكم بين الأمم إذا تخليتم عن العربية، فمن أضاع لغته، فقد أضاع نفسه!.
     يجب تفعيل المؤسسات الحيوية للعمل على ترقية اللغة، مثل وزارات التخطيط لرسم سياسة لغوية قصيرة المدى ومتوسطة وطويلة، وكذا المجامع اللغوية، والمجالس العليا للغة العربية، والوزارات ذات العلاقة مثل التربية، والتعليم العالي، وأن يكون ذلك التخطيط مستنداً إلى الأبعاد التالية:
1 _ البعد الديني: فالعربية هي الوعاء الحامل للقرآن، وكل جهود المسلمين ستتكاتف دينياً.
2_البعد الدستوري: فالدساتير العربية تنص على أن العربية هي لغتها الرسمية، وهذا يفرض عليها واجباً دستورياً.
3_ البعد الحضاري: فالعربية أقدم اللغات، ولها امتداد زماني وجغرافي عميق، وهذا أسبغ عليها كمّاً كبيراً من التراث المكتوب؛ الذي يعد ذخيرةً حضارية كبرى تربط  حاضرنا بماضينا لنستشرف مستقبلنا.
4_ البعد العلمي: صحيح أن العربية تعاني ضعفاً الآن في السوق اللغوي، وفقدت الكثير من المواقع في الحراك الثقافي والعلمي، لكن كانت يوماً هي اللغة العلمية العالمية المتفردة، والأيام دول، والعربية تملك مقومات بقائها وحيويتها.
5_ البعد التأهيلي: لفتح الطريق أمام الطاقات المهدرة علمياً وتربوياً، والتي ستضع إصلاحاً شاملاً، ورؤية للاندماج في ظل التنوع اللغوي.
6_ البعد الاستراتيجي: ومع قتامة الوضع فالعربية بخير، فهي تحتل الموقع الثالث بين لغات العالم من حيث عدد الدول التي تقرُّها لغة رسمية، والسادس من حيث عدد المتكلمين، والثامن من حيث متغير الدخل القومي في العامل الاقتصادي، وهي متأرجحة من حيث المنزلة في العوامل الأربعة الأخرى: الثقافي، اللساني، الاقتصادي، العسكري، ففي جانب النشر الإجمالي من الثقافي تحتل عالمياً الرتبة الـ(22)، والرتبة(42) في النشر العلمي، وهي إحدى اللغات الست الرسمية في أكبر محفل دولي: منظمة الأمم المتحدة، وتهيمن على جزء كبير من الإعلام العربي، ولها حضور في النظام التعلمي، وحضور أقل في النظام الإداري والتنظيمي.
#المجد والرقي للغة العربية.

لغة الضادِ- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن