" - ما هي نتيجة الكشف يا دكتور ؟ "
ظل الطبيب يحدق مشدوها غير مصدق لكشف الأشعة السينية الإيكوغرافية التي وضعها في الجهاز الكاشف المضيء على جدار الغرفة .
بالكاد رأيت تقاسيم وجهه وقد علتها حيرة مفاجئة ..لا بد أنه همس في قرارة نفسه " أي موقف هذا " .
إلتفت إلى أمي نصف استدارة .. رفع نظارته وقد ندلى خيط يشدها حول رقبته .. ثم ازدرد ريقه بصعوبة ليبلل الجفاف الذي ستحدثه جملته التالية في حلقه :
_ إنهها ... إنهاا .. نتيجة إيجابية .
تهالكت أمي على الكرسي المبطن أمام المكتب جثة لا روح لها .. أحنت رأسها لتتطلع إلى الأرض التي بدات لوهلة أنها تتحرك أسفل قدميها .
تساءلت في محاولة أخيرة للتسلل من قدرها المشؤوم .. ومترجية قدرها العابس .
- هل أنت متأكد دكتور ؟
ارتعدت فرائسها .. صاعقة حلت على كيانها المرتعش فانهارت آمال رجائها بين يديها .
في مواقف مثل هذه .. وحدها الدموع تكشف عن مدى هشاشة أنفسنا .. وحدها الدموع التي انهمرت سيلا من جفنيها على وجنتيها المحمرتين فزعا عبرت عن مدى تألم أمي .. كانت أول مرة أسمع شهيقها .
مسد الطبيب أنفه بليونة .. ثم غمغم بنبرة جافة :
- علينا البدء في العلاج الكيميائي قريبا ..قبل انتشار المرض في كامل الجسد .
كان هذا بداية عهد كئيب في حياتي . حقبة مليئة بالانكسارات .. ونفق مظلم لا أعلم إن كان لنهايته نور .
إنها إحدى أكثر الذكريات إيلاما في طفولتي .. أما أبشعها فكانت ما حدث لاحقا . في ذلك الوقت كان أبي على حافة الجنون ..
أحيل على التقاعد بسبب بعض أعراض الذهان والإضطرابات العقلية الحادة التي كان يعاني منها .. وكان هذا نتيجة ما رجحه طبيبه النفسي كمية الدم التي رآها في حياته . الكثير من الجثث هنا وهناك .. رؤوس مقطوعة .. أجساد نساء مقطعة بعد أن تعرضت للاغتصاب .. ثقوب أعيرة نارية في بطون الحوامل للتأكد من موت الأجنة .. تشوهات ..تنكيلات .. قبور جماعية تسببت بها جماعات إرهابية .. جعلت أبي مضطربا .. لا تتوقع تصرفاته ولا أفعاله .
كان يتهرب من جلسات العلاج النفسي المسطرة من طرف المشرفين على حالته كما يتهرب من شرب حتى أقراصه المهدئة .. كان يعتقد أنه معافى وأننا نحن المجانين .. كل هذا عجل ب ...
كانت ليلة شتوية من ليالي يناير البارد .. أفقت على كابوسا أو على وقع حبات البرد التي ظلت تنقر نافذة غرفتي .. أو ربما لا هذا ولا ذاك .. ربما بسبب ما كان يحدث في منزلنا..فعندما أفقت سمعت جدالا وصياحا وشتائم .. أصوات شجار لفظي عنيف .. أصبح الأمر إعتياديا .. إتهامات أبي أنها مريضة بالسيدا وأنني لست ابنه بل ابن زنا .. أنها
حولت منزلنا لدار دعارة خلال فترات غيابه الطويلة .. تقابلها نوبات غضب أمي الفوارة .. التي ما تفتؤ تحمله مسؤولية تعاستها .. وندمها على زواجها منه .. إلا أن تلك الليلة كانت مختلفة .شعرت بقشعريرة برد عندما أبعدت الغطاء ورحت اكتشف ما يحدث في غلرفة نوم والدي .. اجتزت الرواق حافي القدمين مرتديا بيجامتي ذات اللون الأزرق السماوي وممسكا بدب صغير كان
يؤنسني عند النوم واعتبره صديقي المفضل كلما تقدمت خطوة يزداد الصوت الصادر نت الغرفة .. وما إن وصلت حتى وجدت بابها نصف مفتوح والنور باهتا .. رحت أراقب بعين واحدة ما يحدث .. كان أبي يهددها بالذبح صارخا .. أجابته أمي أن ليس لديها ما تخافه .. وأنها سواء أقتلها أم لا فسيقتلها السرطان على كل حال ..- هيااا .. افعلها ماذا تنتظر .. آقتلني ..خلصني من عذابي وعذابك .. هياا .
بريق أزاح وشاح الظلام فجأة .. فلمع السكين الذي أحكم أبي قبضته على جزءه الخشبي .. لم أكن قد لمحته من قبل خلال مدة وقوفي هناك .. لا أتذكر إن كان للرعد هزيما تبع برق ذاك المساء .. ما أتذكره هو شهيق أمي والروح تنتزع منها بشدة .. سمعتها تحتضر بعد أن نحر عنقها فتطاير الدم غزيرا من عروق رقبتها الناعمة .
تمنيت أن أستيقظ من كابوسي هذا .. لكنه لم يكن كابوسا .
ضغطت على الدب الصغير بشدة .. ضغطت وضغطت حتى انكمش رأسه المغطى بفرو اصطناعي .
إلتفت أبي وقد ظل الدم يتقاطر من سكينه مشكلا بقعا صغيرة على الأرض بعد أن سمع أزيز الباب الذي شرعته كاملا فجأة .. تقدم نحوي .. أمسكني من شعري بشماله .. أحسست ببرودة الشفرة الحادة التي وضعها على رقبتي بيمناه .. ضغط قليلا .. ضغط حتى بان خط رفيع
أحمر فيها .. أغمضت عيني ولم أدري ما العمل .. تساءلت في تلك اللحظة ببراءة صبي فاق التاسعة من عمره بقليل "هل سيكون لي أجنحة بالجنة ؟ .. " هل سأطير عار تعتليني دائرة ذهبية ؟ "هل سأكون خادما للأنبياء التي لطالما روت لي أمي الحكايات حولهم ؟؟ "..
فتحت عيني على وقع ارتطام الجزء الحديدي من السكين بأرضية الغرفة .. في لحظة ما تركه أبي يتهاوى بعد أن فتح قبضته عليه ..أغلق الباب بعد أن أخرجني وربت على رأسي بعطف ..كانت آخر مرة أرى فيها والدي .. ففي طريق عودتي للغرفتي ..سمعت صوت طلق ناري صادر منها .