في صباح يوم جديد، كانت السماء تتزين بنور الشمس الذهبيّ الذي انسكب على أرض المزرعة بهدوء ودفء. طيور الحقل تزقزق فوق الأشجار، ورائحة العشب المبلل تملأ الأجواء بحنينٍ صامت. كان الجد الحاج كريم قد استيقظ باكرًا، وبعد الفجر مباشرة طلب من الرجال تجهيز الذبائح، فقد كانت الذكرى السنوية لوفاة ابنه طارق وزوجته مريم، واعتاد أن يُحييها بدعوة العائلة كلّها، في لمّة يسودها الدعاء وذكرى الأحبة الراحلين.
في فناء المزرعة الكبير، بدأ يتوافد أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر:
مهند، الأخ الأكبر لعلي، وصل برفقة زوجته وأطفاله الأربعة: ثلاث فتيات أعمارهنّ اثنا عشر وسبع وتسع سنوات، وولد صغير لم يتجاوز الثالثة من عمره، كان يتمسك بطرف عباءتها ويطالع الوجوه ببراءة.
منى، شقيقة علي، حضرت مع ابنتيها: ليان الطفلة المرحة ذات السنتين، وأختها التي تكبرها بخمس سنوات، إضافةً إلى ابنها ذو العشر سنوات، وكان يركض بين أشجار الزيتون مع أبناء العم.
أما عم نازلي، نعيم، فقد جاء مع زوجته وابنيه: سالم وسرى، وكانا على خلاف داخلي مع نازلي، وإن حاولا إخفاء الأمر أمام الجميع.
كما حضرت عمّات نازلي الثلاث، واصطفّت سيارات أزواجهن وأولادهم في المزرعة. الجوّ أصبح مفعمًا بالحركة، والهمسات، وأصوات الأطفال، والضجيج العائلي المعتاد.
لكن وسط كل ذلك… كانت نازلي في مكان مختلف.
وقفت عند أطراف المزرعة، تسقي الزرع بهدوء، ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، وشعرها الأسود منسدل على كتفيها، وملامحها هادئة إلى حدٍ مؤلم. لم تتحدث مع أحد. عزلت نفسها عن الضجيج، وبدت وكأنها تتحدث بصمت مع التراب والماء… مع رائحة الأرض التي طالما احتضنت ذكريات والديها.
وفجأة، ظهرت ليان، تجري نحوها بحماس الطفولة، وهي تحمل زهرة قطفتها من إحدى الزوايا، وتمدها بها:
ليان (ببراءة):
"نازلي! نازلي! شُوفي الوردة! كأنها انت حلوة! أنتي قمر!"ضحكت نازلي برقة، وركعت لتأخذ الزهرة وتقبل رأس الصغيرة، فيما كانت ليان تمسك خدها بيديها الصغيرتين وتكرر:
ليان:
"قمر نازلي… قمر قمر…"كان علي يراقب المشهد من بعيد، واقفًا قرب شجرة التين. قلبه خفق لرؤيتها وهي تنحني لطفلة وتبتسم رغم الألم، وأذناه تلتقطان كلمات ليان التي خرجت بعفوية، لتصيب قلبه مباشرة.
قال في نفسه وهو ينظر إليها:
علي (بسرّه):
"قمر… فعلاً قمر، حتى في عزّ الوجع تجعلين الدنيا تهدأ."ومع بداية تحضير الغداء الكبير، كان الجد يوزع المهام، فيما ظلّت عيناه تبحث عن نازلي… لتكون قريبة منه، تمامًا كما كانت دائمًا في مثل هذا اليوم.
