حكايتنا

59 3 0
                                    

عن الأمل، والحلم، وانهيار المجتمعات الصغيرة. عن الذكرى التي لاتُصبرني.

في وقت ما اِنهار، فجأة، المجتمع الذي كان يمثلنا.
كانت الصدمة عارمة. وعلى الصعيد الشخصي لم أفكر للحظة واحدة قط أنه من الممكن أن ينتهي كل ما بنيناه. وأعتقد أن معظم من كانوا حولي أيضًا لم تساورهم أبدًا تلك الفكرة المرعبة.
أخذتنا الثقة والغرور. عندما تجد نفسك تشارك في أنظف حدثْ حدثَ في البلد، وتقول الحق وتثأر له، وتشارك في إسقاط الأنظمة المستبدة، وقطع الجذور الفاسدة- حتى لو اكتشفت فيما بعد أنها كانت مجرد مسرحية هزلية- فإن من الصعب ألا يصيبك الغرور. البعض فضلوا استخدام لفظًا أكثر تهذيبًا، ورقة، فقالوا أن ما أصابنا كان الأمل. وهنا فقط أدركت لأول مرة أن الأمل يمكن أن يكون أخطر من اليأس.
بعد الانهيار بدأت فترة الصدمة العارمة التي أعمت العيون. كانت كل المقابلات بيننا جافة، ومشبعة عن آخرها بالغضب، والحزن، وعدم الإستيعاب. وبعد فترة من الوقوع تحت براثن الصدمة، ومحاولة إدراك حتمية الإنهيار، واستحالة استيعاد ما فُقد، بدأت فترة التخبط. التخبط الأعمى لمحاولة الإنضمام لأي مجتمع أخر جديد، يعوض غياب الأول. الشعور باليتم المجتمعي قاسّ، وبتر الماضي كان مفاجئًا وفظيعًا. عشنا على الذاكرات ما أمكن، حتى اسُتهلكت بالكامل.أخيرًا أنضم الكثيرون منّا إلى مجتمعات أخرى، ذابوا بداخلها، وتملقوا، وأجادوا ذلك جيدًا، ولا أخفي سرًا أني حسدتهم على سرعة انصهارهم داخل تلك المجتمعات الجديدة. أخرون فقدوا عقولهم، وأخرون سافروا بعيدًا. هربوا من أنياب اليتم المجتمعي إلى أحضان الغربة، وكانت الغربة هي الذريعة والمبرر الوحيد الذي يقدمونه لأنفسهم حينما تمزقهم الوحدة. الوحدة التي تصيبهم ليلا بالذعر. لأن أقسى شعور بالوحدة هو الذي تشعر به داخل وطنك، لا خارجه، لأنك حينها لاتملك وطننا تمنى نفسك بالعودة إليه حين تخور قوتك. أخرون اختفوا تمامًا ولا أعرف عنهم شيئًا. أما أنا، وأعتقد أن هناك آخرين مثلي لكني لا أعرفهم حيث ان حجم مجتمعنا كان أكبر من أن تتمكن من التعرف إلى كل افراده، ظللنا في المنتصف. بعد سنوات طائلة من البتر لم نستطع الإنتماء إلى أي طرف آخر. أعلل ذلك بمهاراتنا الإجتماعية الضعيفة، وقدرتنا الضعيفة على الانصهار، وتخطي الصدمة الأولى، وليس لأننا مثلًا أكثر إنتماءً، وتأثرًا بمجتمعنا السابق المنهار من الآخريين، وأيضًا أُرجعه إلى التوقيت الحيوي الذي اِنضممنا فيه إلى مجتمعنا السابق. هنا فقط بدأتُ الاستعانة بالكتب، والروايات، والقصص، والعوالم الخيالية، والفانتازيا. لم تعد الكتب مجرد مصدر للمعرفة بالنسبة لي، إنما أقرب إلى شرنقة دخلتها، ولا أدعو أحد إلى الدخول، ولا أحاول الخروج منها* إنما أُحيط نفسي بها بدلًا من الوقوف وحيدًا وسط التحزبات الإجتماعية في الخارج. إن الشعور بالتميز جميل، لكن الشعور بالإختلاف مُهلك ومُميت. لكني رغم حبي الدفين هذا، واستعدادي للاِنغماس فيها، إلا أن معرفتي بأن تلك العوالم غير حقيقية بالمرة احالت بيني وبين الذوبان الكامل داخلها. ورغم حبي العميق للمجتمع الذي اٍنهار يومًا، فانهارتُ تباعًا إلا أن الذكرى أيضًا لم تلعب معي نفس الدور المؤنس الذي لعبته مع غيري لأني كنت صغيرًا ولأني كنت أيضًا، كما كنت دائمًا، على الهامش، بعيدًا! أعرف أنه أحيانا يلجأ العقل اللاواعي لبعض الحيل للتجاوز أو للتوريط. ومن تلك الحيل؛ تشويه الذكريات، وذلك إما لمحاولة منه، أي العقل الباطني، لتخليص النفس من الحنين المسيطر علينا للماضي، وهنا يكون دوره هاما حميدًا، أو يبدأ في التشويه لكيلا يجد المرء أي أرض صلبة أصيلة يقف عليها كعملية انتحارية منه لإنهاء كل شيء. انهي كلامي بما قاله ممدوح عدوان في كتابه الأثير حيونة الإنسان عن الخسارات والانهيارات الشخصية؛ إنني أصر على الخاسارات التي المت بحياتنا وهي خسارات أكبر من الهزائم العسكرية أو السياسية إنه نزيفنا الإنساني المستمر الذي يُحيوننا او يُجننا.

حكايتناWhere stories live. Discover now