كانت القاعة ضخمةً جداً، وأكوام الذهب في كل مكانٍ داخلها، بعضها يصل ارتفاعه للسقف تماماً، ذهبٌ متنوع الأشكال والأحجام والأوزان، وتتدلى من السقف قلائد ضخمة
كل ما في القاعة كان متاحاً بالكم والكيف لكل من دخل وأراد شيئاً، لا أحد يمنع أو يحاسب، ولا مجال لتسمع كلمة كفى مهما أخذت، فقط كان هناك شرطٌ واحد، أن يدخل الإنسان بنفسه ويجمع ما يريد
وهناك معلومة مهمة أخرى، هذه القاعة متاحة لمدة ٣ ساعات فقط ثم ستُغلق
كان الناس في الداخل كالنحل، منهم من يجمع ذهبه في سِلال، ومنهم من يعبئه في صناديق ضخمة، ومنهم من يسارع ليفرغ ما يجمعه في شاحنات أوقفها على باب القاعة، والكل يسرع بقدر ما يستطيع، عينٌ مع اليد التي تجمع بنهم وعينٌ على الساعة الكبيرة في أعلى منتصف القاعة والتي تشير للوقت الذي بقي على نهايته ساعة واحدة فقط
إلا هو، «مغبون» كان يجلس على عتبة القاعة من الخارج مهموماً، رأسه بين كفيه مُحبطاً، يرفع رأسه قليلاً ثم ينظر للخلف داخل القاعة وينظر لما يجمعه الناس بحسرة ليعود ثانيةً ويُحني رأسه بتعاسة وندم، يلوم نفسه ويعنفها ويجلدها جلداً كان واضحاً للخارجين الذين ينقلون ما جمعوه بسرعة ليعودوا ويجمعوا المزيد
توقف أحدهم بذهول واستغراب شديد وسأله: مالذي تفعله! لم تجلس هنا ولا تسرع لجمع الذهب قبل انتهاء الوقت وتصبح مليونيراً، فلم يبق من الوقت غير ساعة وتنتهي هذه الفرصة المعجزة..!
فقال «مغبون» بهم وإحباط: لأنني كنت أعلم عن هذه القاعة منذ بداية الثلاث ساعات لكنني تكاسلت وضيعت الوقت في تناول طعام الغداء والحديث مع أحد الجيران، لقد ضيعت ساعتين كاملتين، أتفهم ما معنى ساعتين! أتعرف كم كان بإمكاني أن أجمع فيهما! أتعرف كم كان سيكون في حسابي لو كنت بدأت جمع الذهب من البداية! لقد انتهى أمري، أنا غبيّ!
فما كان من ذلك الشخص السائل سوى أن فغر فاع ونظر له بنظرة يعرفها الجميع، تلك النظرة التي لا تظهر سوى عندما يخطر على بالنا سؤال
«هل أنت مجنون أو ما شابه ..؟».°°°
أجل «مغبون» كان غبياً، بل كان غبياً جداً، جداً جداً في الواقع، وهذا ليس لأنه أضاع الساعتين كما ظن فهو أمرٌ قد حدث ومضى، أخطئ وانتهى الأمر ولا يملك فعل شيئٍ له غير الندم
لكنه استحق كل هذا التأكيد على غبائه بسبب طريقة تفكيره في خطئه، فهو قرر بلا أي منطقٍ أو عقل أو حكمة أنه «بما أنني أضعت ساعتين دون جمع أي غرام من الذهب فلا أستحق الساعة الثالثة، ولا داعي لفعل شيئ، لأن الأمر انتهى، فإما أن أجمع الذهب منذ بدء الوقت حتى الثانية الأخيرة أو أجلس خارج القاعة فارغاً تماماً»
فأي عاقل صحيح العقل بلا أي ذرة جنون قد يترك ساعة كاملة يمكنه أن يجمع فيها ذهباً بقيمة ملايين لأنه أضاع ساعتين دون الجمع قبلها ..؟ ما علاقة هذا بذاك ..؟ ولو بقيت دقيقة يجب استغلالها بحمل ما يستطيع ..! إنه ذهب!
«مغبون» يشبهنا في تعاملنا مع خطئنا بالتقصير في مواسم الطاعات، وقاعة الذهب تلك تشبه رمضان، والثلاث ساعات تشبه الثلاثين يوماً، نحن وهو نلتقي في أننا أمام فرصة مذهلة في وقت محدد وحرية اختيار وقابلية الخطأ
ولله ولكرمه وشهره المبارك المثل الأعلى
لنفترض جدلاً أننا لم نفعل أي شيئ يمكن أن يُحتسب لنا منذ بداية الشهر المبارك، لنكن صريحين ودون أي لف أو دوران ولنقل أننا أخطئنا حين قصرنا بالعشرين يوم الماضية من رمضان
أجل نحن لم نستغل تلك الأيام كما ينبغي، كان يمكننا فعل الكثير لكننا لم نفعل، كان يمكننا ختم القرآن لمرات الله العالم بعددها لكننا لم نختم، كان بإمكاننا أن نذكر الله بأعداد ضخمة لكننا لم نذكره، كان بإمكاننا الدعاء لساعات تنقذنا لكننا لم ندعو، قصرنا بالقيام أيضاً، أضعنا الوقت والجهد، لم نجمع ما نريد وما يكفينا لظلمة القبر، وفزع الحشر، وموقف الميزان، أجل فعلنا، لكن ...
ثم ماذا؟ ألأننا قصرنا في البداية نقصر في النهاية؟
ألأننا أضعنا البداية نضيع النهاية؟
ألأننا نادمون على أخطاء البداية مصرون على تكرارها في النهاية؟لماذا؟ ما الفائدة؟ ماذا ننتظر مقابل هذا التصرف الأحمق؟ لا قيامنا بجلد الذات سيصلح الواقع ولا جلوسنا سيرفع درجاتنا ولا رمضان سيتوقف حتى ننهض
والعمر سيمضي والقيامة ستأتي ولابد لنا من الوصول لنفس النهاية «الحساب» عندها سنعيش الموقف الذي رأيناه بين أسطر آيات القرآن، أن نبحث عن أي شيئ ينجينا ولو كانت حسنة واحدة، وقتها سنكون مستعدين وبكل قوانا العقلية لبيع كل غالٍ علينا مقابل سجدة، مقابل آية، مقابل توبة
فلم لا نقرر عيش هذا الموقف الآن لننجو هناك ما دام أن الأمر لم ينتهِ بعد ..؟ فما زال في القلب نبض وما زال في الشهر وقت ولا زال الرحيم رحمياً والمُجيب مجيباً وموسم المعجزة «رمضان» مازال قائماً، واغتنام عرض مضاعفة الأجور والعتق من النار ما زال متاحاً
في الحقيقة ما زال هناك الكثير من الخير القابل للجمع والتخزين، أوقات طويلة للدعاء، ليالٍ عديدة للقيام، أيام عديدة للقرآن، للذِكر، للرضا، للصبر، للتدبر، للتفكر، للصدقات، للتوبة، للبدايات ...
ثم إن صاحب قاعة الذهب ذاك بقيت له فقط ساعة وقد شعرنا بحجم الغباء والسفه في موقفه عندما جلس دون فعل شيئ بحجة الندم على تضييع الساعتين، فكيف سيكون موقفنا ونحن نعلم أننا نملك عشرة أيام كاملة بلياليها ونقرر عن سبق الإصرار والتعمد تضييعها بحجة الندم على ما فات..؟ ١٠ أيام، كل يوم ٢٤ ساعة، أي أننا نملك أكثر من ٢٠٠ ساعة_إذا افترضنا ضمان عدم الموت_
والأهم، ذهب قاعة «مغبون» كله لا يساوي نظرة رضىً من رب العفو لا نشقى بعدها أبدا، وهو ما نحتاج
وبالنهاية {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}
°°°
🌙