الثاني من مارس عام 1895، مصر، الإسكندرية، أملاك الدومين
راقدٌ على فراشه ذي الخشب المُذَّهب والمُنَّجد بالحرير الأحمر، يُعانِي لالتقاط أنفاسه، حوله زوجاته الأربع وأبنائه لكن عقله ليس معهم، عقله يحلق لحبٍ لم يُكتَب له أن يكتمل، حبٌ قُتِل في المهد قبل قرابة نصف قرنٍ من الزمان...عام ١٨٥٠، فرنسا، باريس، على ضفاف نهر السين
مُتكِئٌ على حافة الجسر يراقب السمك وهو يسبح بينما يستمع لكلامها بتَمَعُن، لَكْنَتُها الفرنسية المتقنة قد تخدعك لتظن أنها فرنسية لكنها ليست كذلك، أوجيني دي مونيتيه كوتسيه، الأميرة الطموحة التي تختلف عن أقرانها ذوات العنصرية العمياء ضد العثمانيين.
-أترى هذه البلاد الواسعة الجميلة يا إسماعيل، غدًا سأسير فيها في موكبٍ عظيم، ليس كأميرة زائرة أو مقيمة لفترة مؤقتة للدراسة بل كأمبراطورة هذه البلاد كلها!
=لكن فرنسا جمهورية يا أوجيني!
-أَتَحْسَبُ حفيد بونابرت يتركها كذلك؟! الدم الملكي يجري في عروقه ثم يُسَلِّمُها لمواطنٍ من الطبقة الدنيا؟ لا أحسبه يفعل!
=معكِ حق، لكن أن تأخذي الحكم من يد نابليون شبه مستحيل كذلك، إن كان لم يسلمها لشخص من الطبقة الدنيا -وهو ليس بالخطر عليه- فهو لن يفعل حتى ولو كان من الطبقة العليا!
-سأجد حلًا، سأسْلُبُها بطريقة ما، لا أعرف كيف لكن سأفعل، وأنت يا إسماعيل، ما هو حلمك؟ لما تركتَ مصر وجأت إلى هنا لتدرس؟
=أريد أن أصبح والي مصر.
-أنت ولي العهد؟
=لا الأمر لا يسير هكذا في بلادنا، بل الباب العالي هو من يختار الوالي الجديد، لذا أسعى أن أرفع من كفائتي؛ فعمي وأخي الأكبر منافسيان قويان، لكنهما سيؤديان بالبلاد للتهلكة.
-وأنت من سينقذنها؟!
=لا بل من سيسير على درب جدي ويكمل الطريق هو من سينقذها، مصر مليئة بالخيرات يا أوجيني، فقط ينقصها توجيه جيد وقد تكون أقوى من فرنسا حتى!
-وماذا إذا باتت هي وفرنسا كيانًا واحدًا؟
تلاقت نظرتهما المليئة بالحب والطموح، ابتسم لها قبل أن يكمل:
=حينها سيصبح حلم بونابرت الأول واقعًا، العالم كله سيكون تابعًا لهذه الإمبراطورية.الثلاثون من نوفمبر عام ١٨٦٩، السويس، مصر، حفل افتتاح قناة السويس
هذا أمله الأخير في استرجاع حُبِ عمره، زوجها نابليون بونابرت الثالث مشغولٌ في صراعاتِ فرنسا مع بروسيا، وهي هنا وحدها، هو وهي في رحتلهما طوال الأسبوع الماضي وحدهما، رحلتهما البديعة إلى الأقصر كانت بمثابة شهر عسل مثالي، وهو مستعد لصُنع واحد أكثر مثالية، فقط لو تغتال بروسيا نابليون الوغد ذاك! لا يدري أيتمنى الخير أم الشر، لكن الحب مُسْكِرٌ مُعْمِي مُمِيت.
لقد استدان ليقيم هذا الاحتفال، لكنه بالتأكيد لن يخبرها، سيصلح كل شيء بعدها فقط يكفيه رؤية بسمتها هذه للأبد.
- لم أرَ في حياتي أجمل ولا أروع من هذا الحفل الشرفي العظيم.
=سعيدٌ أنه أعجب جلالتكم، هذا أقل ما يمكن للبلاد القيام به، فكما تعرفين مصر في منطقة تجارة حيوية كما أنها تصدر أجود أنواع القطن لكم.
-أجل صحيح، لولا الرجل الضعيف الذي يسمى سلطان هذا! ألا تفكر في الاستقلال عنه مثل جدك؟
=لا لا أفكر في هذا! ديننا يُقدِس مكانته! إنه في مقام بابا روما عندكم!
-أوه، أتمنى أن تجد حلًا من هذه المعضلة قريبًا، هذا وضع مُقَيْدٌ حقًا.
=لا تقلقي سأجد حلًا، سأتواصل مع معارفي في الاستانة، سنحاول تحسيين أوضاع الدولة.الثاني من مارس عام ١٨٩٥، مصر، الإسكندرية، أملاك الدومين
عاد من ذكرياته بينما يَنْهَشُهُ الحنين، وينهشه العار والذل بعدما كان زوجها وملكة انجتلرا فيكتوريا سببًا رئيسًا في تقييد سلطات عائلته وخلعه من العرش، بل والتدخل الأجنبي في البلاد بعد مطالبتهم بديونهم التي لم يتسطع سدادها عكس توقعه، لم يَعُدْ كل هذا الهم يُحتَمَلْ على صدره المريض.
ألقى نظرة أخيرة على أسرته التي تَنْتَحِب باكيةً قربه، يُدرِك كما يدركون أنها اللحظات الأخيرة، بدأ يرى وجوهًا لا يعرفها وسط الحضور، لا ليسوا بشرًا... أنه الوداع.
بعد رحيله، ستَكْتَشِفُ زوجاته أن قلبهم ليس الوحيد المُرَمَّل، فالإشاعات تسير في البلاد كالنار في الهَشِيم عن امرأةٍ ذات ملابس سوداء تزور أماكن زوجهم المفضلة، والغريب هو ملامحها الأسبانية التي تشبه لحدٍ كبير ملامح الامبراطورة أوجيني دي مونيتيه.٢٠٢٦، فرنسا، باريس، ضفاف نهر السين.
تسير على الجسر باحثةً عن معقدٍ فارغ، قد كانت طوال عمرها كارهة لفرنسا والفِرِنْسِيَّة بفضلِ تاريخها وعنصرية أهلها ضد المسلمين خصوصًا والعرب عمومًا، لم تتخيل يومًا أن تُلقِي بها الحياة هنا، وحيدةٌ دون أهلٍ أو صَحْبِ، بالكاد أصلًا تستطيع فهم دروسها والتعامل مع الأطفال المصابين وأهلهم بلَكْنَتِها السيئة.
"كان عليَّ الذهاب لبرلين"، حدثت نفسها، "لكن لم أكن لأحصل على معجنات طازجة بعد التدريب على ضفاف نهر السين بعد يوم شاق"، تعلم أنها حجةٌ وَاهِيّة تَتَصَّبَرُ بها.
وأخيرًا وجدت مقعدًا فارغًا، جلست تلتقط أنفاسها لِتلحظَ شابًا جلس في نفس الثانية، هَمّت بالوقوف والذهاب لكنه سبقها.
-pardon!
كانت تنظر إليه بصدمة، لم تقابل عربي منذ أشهر، وحينما قابلت أحدهم يكون أحد أقاربها!
=إسماعيل!
نظر لوجهها مستغربًا:
-ماذا تفعلين في باريس؟!
=تدريب ضروري لرسالة الماجستير، وأنت؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟-أكمل دراستي في جامعة باريس.
=تفضل بالجلوس، لا بأس!
-لا لا داعي، أنتظر أحد أصدقائي أصلًا بالتأكيد وجد مقعدًا في مكانٍ آخر، سأذهب للبحث عنه.
قبل أن يذهب أخرج قصاصة ورقية وقلمًا من جيبه، دَوَّن عليها سريعًا بعض الأرقام:
-هذا رقم هاتفي، إذا احتجتي أي شيء لا تتردي، سأنتظر اتصالك!
غادر سريعًا قبل أن تجيب، ابتلعت ريقها في توتر ،أخرجت هاتفها تتحقق أن وجنتيها لم تفضحاها باحمرارهما، فجأة أصحبت باريس مدينة العشاق فعلًا، أهي لعنة أوجيني والخديوي؟
أنت تقرأ
على ضفاف السين
Ficção Históricaقرر إعادة أمجاد جده، لكن دون أن يدرك كان قد حفر قبره بنفسه. اللقاء الذي مر عليه 45 عامًا يُغير مجرى تاريخ الجانب الشمالي الشرقي من القارة السمراء