الظلام دامسٌ وصوت المطر يضرب حبات التراب هو الصوت الوحيد المسموع،جلس شاب حزين وحيد في بيته المتواضع،وحيدٌ...لا شيء أمامه سوى ورقة بيضاء،ولا شيئ معه سوى قلم حبر أسود كسواد الليل المطل على نوافذه، أشعل سيجارة ليوهم أحزانه بالتخفيف عنها ثم شرع يكتب على ورقته البيضاء مناجياً ذاكرته التي لا تخذله أبداً:
صوت المطر على باب بيتي،يبعث الحياة في هذه الأرض من دموع السماء وغيومها كما بعثت دموعي الحياة في هذه الورقة وهذا الحبر،الكثير من الصور في مخيّلتي...
ذكريات كثيرة للغاية...أذكر وجه أخي الوحيد صخر وأذكر وجه أمي وأذكر وجهك يا حبيبتي...مايا،أذكر وجه ناطور البناية التي كنا نسكن فيها وأذكر وأذكر وأذكر....ولكن أكثر ما أتذكره هو ذلك اليوم الملعون عندما عدنا أنا وأنتِ من نزهتنا اليتيمة،كم كنتِ جميلة في ذلك اليوم!،كنّا نتمّشى عندما سمعنا أصوات القصف،لقد اعتدنا تلك الأصوات لمدة سنتين ولكن في ذلك اليوم كان وقعها مختلفاً،لقد كان الصوت أقرب وأقوى وكأنه صاروخ مسح دمشق من هذا العالم،أمسكتِ يدي مذعورة فعانقتك وقلت:"لا تخافي...لا بأس".
لقد كنت خائفاً مثلك ولكنني حاولت إخفاء ذلك،ولكن عندما أكملنا المشي اقتراباً من حيّنا تعاظم الصوت مرة أخرى وتعالت أصوات صراخ الأطفال والنساء وحتى الرجال...رجال يصرخون من الألم!.
هلعنا نركض باتجاه حيّنا بين الحشود المذعورة،وفجأة في أقل من نبضة قلب حصل ما حصل...
سقطت بنايتنا وكأنها عود ثقاب نفخ أحدهم بقوة عليه،لم أستطع أن أفعل أي شيء سوى البحث عن عائلتي،عائلتي التي قُتِلَت تحت هذا الركام بكل تأكيد، أبحث عن موتى هل يمكن أن يبحث المرء عن ميّت؟،قد يكون ممكناً أو لا،بحثت ويا ليتني لم أفعل ووجدت ما أبحث عنه بكل أسى...وبكيت...بكيت مدة لا أعرفها قد تكون دقيقةً أو ساعةً أو قد تكون عمراً فلقد شخت بعد ذلك المنظر.
عندما استجمعت قواي نهضت للبحث عنك ناشداً المواساة،ولأول مرة لم أبتسم لمرآك بل بكيت...بكيت بين ذراعيك طويلاً حتى المساء،قلتِ لي بيأس عندما جفّت مقلتاي:"لماذا نعيش كل هذا الظلم؟...ألا يوجد آخرون يستحقونه؟".
كان صوتك كالنحيب أمّا صوتي فكان كالموت عندما قلت:"يوجد...ولكن ليس في عالم كهذا...ليس في زمن كهذا...ليس
والوطن يعيش حالة كهذا".
قبل أن نفكر بأي شيء سمعنا صوت رجل يصيح:"أهربوا!!!،لقد وصل الإرهابيّوون لقد وصلوا!!".
وأعاد كثيرون نفس الكلام وراحوا يأخذون أطفالهم ليهلعوا خارج الضاحية،نهضت حائراً متعثراً تحت تأثير الصدمة أو ربما الخوف،أعتقد أنه الخوف لأن الخوف هو ما يُظهر شجاعة الإنسان،وصحت بالناس
بأعلى صوتي:"انتظروا!!،لا ترحلوا!،لا تستسلموا!!، هذا ما يريدونه منّا!!".
لم يكترث أحد لي إلا عجوز توقف ربما لأنه تعب لا أكثر،ولكنه قال بصوت ساخر يائس:"ماذا تريد منّا أن نفعل إذن أيها الأبله؟!".
فصرخت بألم:"فلنبقَ!،فلندافع!،فلنقاوم
ونصمد كما فعلنا طويلاً!".
"وعمّ سندافع؟..عن الركام؟".
شعرت بركبتيّ تتداعيان أسفل جسدي فسقطت فجأة،أمسك حفنة من التراب الدافئ بكل يد وقلت:"ندافع عن هذا التراب...تراب هذا الوطن...وطننا نحن و
ليس هم،ألا يستحق تراب الوطن سقايته بدماء أبناءه؟!".
للحظة واحدة ظننت أن الجميع سيحمل عصياناً لنهجم سويةً ونموت سويةً ونسقي التراب بدمائنا سوية،ولكن المسلحون حاصرونا من كل الجهات،سيارة من كل جهة وأمام كلّ واحدة يقف عشرةٌ ملثمون ومسلحون،أما خلفهم فلا أحد يعلم العدد سوى الله تعالى.
جعلونا نركع بينما يعقدون أيدينا خلف ظهورنا بحبال ثخينة،وهناك كانت آخر مرة ألقاكِ فيها حيث رميتني بنظرة عتاب بلا حروف ولكن صوتها وصلني،وكأنك قلتِ:"لو لم نتنزه لكنّا ميتين الآن،والآن سنعيش تحت رحمة هؤلاء الأوغاد بسببك"،ومعك حق في هذا فإن الموت كان أهون عليّ من تلك السنتين في ذلك المكان المروّع،فإن نسيت ما كان يحصل هناك فإن جسدي يذكرني،تذكرني قدمي منقوصة الأصابع بما كان يحصل،تذكرني يدي اليسرى المحروقة بما كان يحصل،
لقد حرقوها بالزيت المغلي لأنني طلبت مزيداً من الزيت لتدهنه طفلة على رغيف من الخبز البائت،فذلك ما كنّا نأكله لا أكثر،لا عجب أن الموت أسهل من الذي عشته هناك.
ولكن لحظة وصول الجيش السوري و تحريرنا استحقت كل ذلك الألم،لقد كانت فرحتي لا توصف بذلك ولكنها امتزجت بالحزن على فراقك وخسارة عائلتي.
تُرى أين أنتِ الآن؟،هل لا تزالين حيّة أم أنك متِّ؟،وإن كنت حية فهل تذكرينني؟،
هل تعتقدين أني السبب فيما حصل يا ترى؟،حسنا...لا يهم كل ذلك بقدر ما يهمني أن تكوني بخير...سعيدة وآمنة.
أتمنى أن أراك مجدّداً،لن أعانقك،لن أملّس على شعرك ولن أصافحك حتى،بل كل ما أريده هو أن أجيب على سؤالك وأذهب، أموت لا يهم فالحياة والموت سواسية بعد
ذلك....
نحن نعيش هذا الظلم بسبب حرب ليست لنا،لا نريدها ولا نحبها،فليست حربنا إنها حرب الجبابرة،الظالم ضد الأظلم،القوي ضد الأقوى،قائد ضد قائد...وفي النهاية يحظى من يريدون الحرب بالسلام و يتركون حربهم لنا لنعاني ويلاتها.
وأخيراً رفع قلمه عن الورقة التي لم تعد بيضاء،فلقد زوّدها بالحبر فصارت أجمل كما تُزوَّد الأرض بالدماء لتصبح أجمل وأطهر.
النهايةإذا أعجبكم ما كتبت فرجاء أخبروني بالتعليقات وتابعوني،لأنني أحضر لروايتي الأولى بإذن الله❤
