«هل أسدل الستائر أم تريدها مشرعة؟».«افعلي بها ما شئتِ، لا فرق عندي».
جرت تلك المحادثة القصيرة المقتضبة بعدما علمت بأنه لا يمانع بقائي في بيته، وبأنه فقد بصره.
تأملت قسمات وجهه الهادئ وهو متوجه ببصره للنافذة، ليس ليبصر ما وراءها، بل يفعل ذلك على سبيل الاعتياد، لم تكن استمالته في الكلام سهلة، فهو يجيبني إجابات مقتضبة لا تحتمل إطالة الحديث وفتح موضوعات أخرى، وكأنني زائر ثقيل على قلبه لا يعرف كيف يصرفه، أو لعل جزءًا منه لا يود ذلك.
ذهبت لغرفتي بعدما بادلته تحيةً سريعة وفي نيتي أن أهرب من هذا اليوم الذي لا يريد الانتهاء كما أريد، لم يعد قلبي قادرًا على الخوض في حديثٍ أقرب أن يكون لغريبين التقيا عنوةً في محطة قطار ارتميت على الفراش ودثرت كامل جسدي باللحاف رغبةً في الاختباء مما لا أعرف ماذا، ربما من الحوائط التي استرقت السمع لحديثنا وهالها ما سمعت، فكيف لمن كانا أفضل صديقين وقريبين أن ينتهي بهما المطاف غرباءً!
في اليوم الذي يليه قرأت له كتابًا من أرفف المكتبة التي احتضنتها غرفة المعيشة منذ أزيَد من خمسين عام، اهترأت صفحات الكتب وملأها الغبار وتوارت كثير من الكلمات خلف حاجز غير مرئي يحول دون قراءتنا للكتب القديمة، جميع هذه الكتب تعود لأبي الذي كان قارئًا نهمًا منذ سنينه الأولى، ورغم انعدام حاجة جدي للإبقاء على كتب ابنه الراحل، أبقاها.
كلما قرأت سطرًا رفعت بصري إليه كي أرصد ما قد يعبر على وجهه مما يجيش في نفسه، ولكن لا شيء سوى جمود قسماته وكأنه ما يزال وحيدًا في انتظار عودة حفيدته الصغيرة ليقص عليها قصةً جديدة.
«لقد انتهى دوري وحان دورك».
قلت وأنا أغلق الكتاب وأدنو قليلًا منه، فأجابني وكأنه، وللمرة الثانية، قد انتبه لوجودي للتو:
«دوري لأي شيء؟»
«احك لي قصة».
رفع أنظاره المنطفئة باتجاه النافذة مسدلة الستائر، دون أن يتعب نفسه برفض طلبي أو موافقته، هل نسي كيف يقص الحكايا؟
«ما الذي تفعلينه؟».
سألني مرةً حين أحس بجلبتي قريبًا منه، كنت أحاول التقاط الإشارات القريبة لنستمع للمذياع بعدما أنهكني السكوت وأنهكني الكلام.
لم تخرج من المذياع سوى أصوات تشوش ثم أخذت الأصوات تصفو شيئًا فشيئًا حتى تمكنا من تمييز صوت مذيع يتحدث عن أحوال الطقس.
«أغلقيه».
«و.. ولكن».
كدت أتذمر بطفولية فكيف يطلب مني إسكاته بعد جهدي لإنطاقه؟
«هل أغير المحطة؟».
«لا، لا أود الاستماع لهذه الأصوات المملة».
أنت تقرأ
بيتُ جدي
Short Storyقصة قصيرة عن فتاةٍ شابة تعود لديارها بعد سنوات الهجر الطويلة. .. حازت على المركز الثاني في مسابقة ألمعي.