تحتضِنُنِي السماء.

58 9 5
                                    

«إضاءة النجمة في الأسفل، تُلهِمنِي للمزِيد..لِذا أتمنى مِنكُم الضغط عليها»  <3




كانت الشمس قد اشرفت على المغيب. وهي تسير بخطوات بطيئة قوية خافضة راسها الى الارض، تنظر الى قدميها وهي تخطو بهما مرتدية حذائها الرياضي الابيض الخفيف، تعد الخطوات في دماغها. تتخطى ببطء على يمينها و يسارها عشرات المنازل الباهية الكبيرة بحدائقها الامامية الصغيرة، اذ يفصل بين صفين المنازل رصيف عريض لعبور
السيارات.
لقد انتهى دوامها الدراسي الثانوي منذ اربع ساعات، وهذا يعني انها قد تاخرت. وهي تعلم ذلك وتعلم ان الوالدة لا تحب هذا. لكنها لا تبالي، اصبحت فجأة منذ فترة تتمرد في نفسها على كل شيء، تتمرد على الكرة الارضية، تتمرد على العالم نفسه.

نظرت لساعتها الكاسيو السوداء الصغيرة، اضحت الساعة الخامسة، واليوم هو اليوم المنشود والمنتظر منذ اسبوع كامل، والديها سيخبرانها بشيء بالغ الاهمية، شيء كبير سيحدث بعد مدة، وسيشكل تغيير كبير على المنزل. ايقنت انه عليها الاسراع اكثر، تفاديا للتوبيخ الزائد ورغبة منها في الاطلاع على ما سيحدث.
اسرعت من وتيرة سيرها. لايزال الطريق امامها طويلا. تمنت لو اخذت دراجتها، فهي لا تحب الركض، خصوصا في شارع يقطنه العديد.
لقد سارت اليزابيث في هذا الطريق طوال حياتها كلها، اذ ان طفولتها كلها كانت تقطع فيها هذا الطريق جيئة وذهابا للمدرسة ومنها، وذلك من الاسباب العديدة التي جعلتها ساخطة على وجودها في ذلك المكان.
بعد اربعون دقيقة وصلت اليزابيث اخيرا للشارع الذي تعيش فيه. انها تكرهه، ضيق، مهجور، وموقعه معزول تماما عن العالم الخارجي.

به ساحة رئيسية صغيرة كانت قديمًا ملعبًا لكرة السلة، ثم هجروه من كانوا يلعبوا فيه بسبب ارتيادهم للجامعة وذهابهم لاماكن افضل، اماكن تمنت اليزابيث ان تكون فيها. لكن ظل العمود وشِباك كرة السلة على حالهم، في نهاية الشارع امام من يدخل، كعلامة وفاء للمكان، وانه كان هناك بشر هنا
في يوم من الايام.

يوجد ستة عمارات فقط في الشارع، بها اثر لرسومات باهته، كلها مهجورة تعيش بها القطط والكلاب واعشاش العناكب لا اكثر. لا احد يعيش هنا غيرهم بالمعنى الحرفي، عدا رجل مسن ورجل اخر صديق لوالدها ويدخن الحشيش.

تنبلج في قلب العمارة التي هي واجهة الشارع والمعلقة فيها عمود كرة السلة، رسمة ضخمة بارزة، تتخذ شكل طائر العنقاء الاسطوري، بلونه الاحمر الدامي المشع، مزين بريش ارجواني واخضر وازرق بجانب الاحمر والبرتقالي، وعند حلول الليل وبزوغ شبح الظلام الصامِت وحيدا بين ثنايات العمارات المهجورة والشارع المجهول، تتوهج وتسطع ريش الطائر الارجوانية والزرقاء، متوهجة معهم هيئته المعتدة بنفسها، اذ طليت الصورة بالوان النيون الساطعة.
وفوق الطائر كلمة "حرية" بخط كبير منمق باللون الازرق يسطع هو الاخر. تاخذ الصورة مساحة العمارة كلها عدا بضع انشات منها.

كل من يدخل الشارع ونادرا جدا ما يدخله احد، يلتفت لتلك الرسمة اولا قبل كل شيء، خصوصا اثناء الليل.
لا احد يعرف من رسم تلك الرسمة، ولا احد يعرف متى. يقول والداها انها موجوده قبل ان يقطنوا في هذا المكان.

وترددت اقاويل من السكان القدامى الذين رحلوا، ان من رسمها هو عضو في عصابة وصديق لاحدهم مات بحكم الاعدام ظلما حيث اتخذوا رمز طائر العنقاء كرمز للخلود والحرية. واخرى تقول ان من رسمها هو مهاجر يعرف سرا عن هذا المكان، وان في تلك العمارة كان يوجد مقر استخبارات. لكن الحقيقة المؤكدة ان تلك الرسمة هي الحسنة الوحيدة في هذا المكان.

اغلب حياتها بعد مجيئها من المدرسة كانت تقف لدقيقتين وتحدق في هذا المشهد الكامل للشارع امامها، تحدق باحتقار، بعيون استهجان، وبغضاء، الى ان اصبحت عادة لديها في بعض الاحيان.
لكنها على الاقل تقدر الرسمة قليلا، لانها بديعة جدا في نظرها.
يتساءل دوما والديها عن سبب حقدها العميق للمكان و في نظرهما لا يجدان مبرر قوي، لكنها ترد عليهم قائلة دوما : نحن منبوذون من العالم بسبب هذا المكان المهجور اللعين.!!!!

انعطفت اليزابيث للعمارة التي تسكن فيها، وجدت والدتها تقف في الشرفة في الطابق الرابع، منتظرة اياها باحتقان، ووالدها ينظر اليها ضاحكا يحييها بكوب الشاي الذي في يده.
رفعت بصرها اليهم بعبوس خافت، رهبت من هذا المشهد، لانه بداية تانيب لها على تاخيرها الشديد.
وصلت لعمارتهم المدسوسة والمحاطة بثلاث عمارات، كانها مخبأة، واحدة في الخلف واثنتين على الجانب، وهم للحظ السيء السكان الوحيدين الذين يقطنون فيها.
دخلت للمدخل الصغير، وصعدت على السلالم سلمة سلمة، خائفة مرتعدة، تترقب، بالرغم من انتظار والديها لها، وبالرغم من ان عمرها ثمانية عشر عاما.
لقد حدثت أمام مدخلهم اكثر من عشر جرائم قتل شنيعة قبل ذلك و كانت اليزابيث شاهدة عليها كلها.

تذَكّرنِيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن