في المساء تهب الرياح فتدخل إلى ساحة بيتنا، توقذ الكلب العجوز أولا، ثم توقذني بعد ذلك، في الحقيقية، لكي أكون دقيقا، إن نباح الكلب هو ما يوقذني وليست الرياح. حينما ينبح الكلب تكون عيناي مغمضتان وقلبي مستيقظا، ومصباح الكيروسين تتراقص أضواءه مرتعشة على حافة السرير، يضئ أحيانا ويخفت أحيانا أخري. أري أمي متربعة على سريرها في ظل الضوء الخافت مستغرقة في رتق نعل زوج من الأحذية المصنوعة من القماش. تبدو وكأنها لم تلحظ على الإطلاق أن الرياح قد دخلت إلى ساحة البيت متبخترة خارج النافذة، وأيضا لم تشعر بخيط الرياح الذي تسلل خلسة إلى الغرفة المضيئة عبر الفتحة الصغيرة والأوراق الرقيقة التي تغطي النافذة، تجعل الرياح لهب مصباح الكيروسين المعلق على حافة السرير يبتعد ويتمدد متمايلا على الحافة الأخرى. فتشعر أمي فقط بوجود الرياح عندما ترفع يديها لتثبت دبوس شعرها، وجبهتها كانت باردة كأنما سُكبت عليها ماء لتوها، تقول أمي إنه قد قُطع ورق النافذة مرة أخري، ولا أعلم حينها إن كانت تحدثني أم تحدث نفسها أم أنها تحدث أحدا أخر.
أفقت من نومي مرة أخري، فرأيت ضوء المصباح مازال على حافة السرير مائلا، وظِل أمي مثل دب ضخم منعكسا على ورق النافذة ناصع البياض، يغطي ظلها نصف النافذة. وأمي مازالت على نفس وضعها تجلس القرفصاء على السرير تلج الخيط في ثم المخيط، ترتق نعلا جديدا، ولكن هذه المرة كان الحذاء مختلفا عن المرة الأولي. وضعت بنظام زوج من الأحذية المثبت بداخلها قالب مصنوع من القمح المبلل في الوعاء الموجود بجانبها، كان الحذاء يرقد في الوعاء وكأنه طفلا حديث الولادة. ونظرت على ذلك الحذاء فشعرت أني أعرفه جيدا وانه غريب عني في نفس الوقت، أعرفه جيدا لان سطح الحذاء تعلوه أثار يد أمي، ونعل الحذاء عليه عرق يديها، وشعرت بغرابة الحذاء عني لأنني لم أر أحدا في بيتنا يرتدي مثل هذا الأحذية من قبل، ولكن يرتديه أناس غرباء، أناس لا يصنعون الأحذية.
ظهر القمر في السماء، ومازالت الرياح في الخارج تضرب يمينا ويسارا دون توقف، والعشب المعلق في السندرة يتأرجح، لا تعط الرياح فرصة للهب المصباح المائل أن يستقيم. وكذلك يميل جسد أمي مع لهب المصباح. لا أعلم كيف للناس الذين سيخرجون من بيوتهم اليوم أن يقضوا تلك الليلية العاصفة في الخارج، على كل حال فكلما نظرت إلي لهب المصباح المائل أشعرني ذلك بالقلق والاضطراب، وبرغم أن أمي تجلس هناك في هدوء ترتق الأحذية بسرعة وسلاسة، الا أنني أعلم كم هي مضطربة القلب، فكلما أنحني لهب المصباح، يزداد داخلها ذلك الشعور بالقلق والاشتياق. ثم بدأ الورق الذي يغطي النافذة في الارتجاف وإصدار صوت خرخرة، حينها غطت أمي صدرها بيديها، فقد أيقنت في تلك اللحظة أن قلبها بدأ في الارتجاف، وأنا كذلك أخذ قلبي يرتجف، لا أعلم كيف حدث كل ذلك.
فارقني النوم، وأخذت أنظر إلى الورق الذي يغطي النافذة يضئ تارة ويخفت تارة أخري، وقلبي منشغل بسرعة اهتزاز الأعشاب الجافة المعلقة في السندرة، أعتقد أن حزمة من تلك الأعشاب ستسقط على الأرض. لا يهم إذا سقطت واحدة من الحزم، فيمكن لأمي أن تستخدمها غدا لإشعال نار الموقد وسيوفر ذلك عليها الصعود إلى السندرة، لكن إذا سقطت بعض الحزم سيكون أمرا مزعجا، فستضطر أمي أن تصعد عدة مرات إلى السندرة لتعيدها إلى مكانها.
وحينما انتصف الليل، سمعت في الخارج صفير الرياح الحاد. رفعت أمي أخيرا رأسها ناظرة إلي ورق النافذة محدّثة نفسها قائلة يا لهذه الرياح والجو البارد! بينما لم تتوقف يديها أبدا عن العمل. تعلم أمي جيدا أنها لا يجب أن تتوقف يديها عن العمل، فاذا توقفت عن العمل، سيغلبها النعاس على الفور. ومازال الضوء المنعكس على ورق النافذة يتراقص، ومازالت الرياح تهب بوحشية في غسق الليل، كما لو كانت كلب ضال يبحث عن مأوى أو كلب ضربه صاحبه ففر إلى هنا يزعجنا بنباحه. ثم سمعت شيئا في الخارج يصدر صوت خربشات على ورق النافذة، يبدو مثل بعض حبات الرمال الصغيرة تضرب أوراق النافذة، أو مثل يدين صغيرتين تطرقان عليها.
قالت أمي، انه صوت تساقط الثلوج.
تقفز ندف الثلج حينما تهب الرياح
ويرتجف قلبي مع هجوم حبات الثلج المتساقطة
نفذ زيت المصباح كأن هناك إسفنجة تمتصه، واخذ الدخان ينتشر ببطء في الغرفة، حتى وصل لكل ركن فيها، فنفذ الدخان إلى رئة أمي، وتسلل الهواء البارد إليها.
سكنت الرياح. وشحب ضوء القمر، وأخذ الثلج يتساقط بغزارة، يشبه شرائح الفجل، طبقة تغطي الأخرى.
وقد جف زيت المصباح.
دوى صوت أذان الفجر في سكون الجبل الهادئ، ليوقظ القرية الغارقة في نومها، وأيقظ معه قلب أمي، نزلت أمي من على سريرها مرددة الأدعية، لتتوضأ وتصلي صلاة الفجر.
طلع النهار
وتوقف هطول الثلج، وسكنت الرياح.
لكن قلب أمي الذي ملأه الشوق والقلق لم يعد. فقلبها قد حملته الرياح أو ضوء القمر، يتطاير مع ندف الثلج إلى البرية، وفي الغابات، وفي المدن الخاوية.اتمنا ان تستمتعو بالقراءة
اراكم في فصل جديد
أنت تقرأ
قصص قصيرة مترجمة من الصينية
General Fictionمن كتاب: حكايات الخريف والأرض الكاتب: مين تشي تساي اتمنا ان تستمتعو بقراءة القصص