ابي

4 2 0
                                    

~خريف على نصل المنجل~

حينما ترتسم الابتسامة العريضة على المناجل الخاملة المستريحة، نعلم أن الخريف قد أتي.
فبمجرد أن يبدأ الخريف، لا يستطيع أبي مقاومة إغراء ذلك الشعور بفرحة الإنجاز، ومثل كل عام، يلتقط المناجل من على الحامل ثم يتفحصها لوقت طويل، بعدها يجلس على الكرسي الصغير المتهالك ذو الثلاثة أرجل في وسط ساحة الدار. يرتب سبع أو ثمان نُصل ويضعهم بحرص بجانب قدميه، ثم يبدأ بشحذها واحدة تلو الأخرى بدقة وصبر، ليزيل عنها صدأ العام الماضي.
يسمع أبي صوت الخريف وسط صرير شحذ المناجل، وتساقط قطرات الماء، بهي، تملئة الحياة، يمضي سريعا بجانب أذنيه. والأرض تبدو مثل الذهب. فينفرج حاجبيه المعقوفين دائما، وتفلت منه ابتسامة مشبعة بالرضا والحنين.
ولكن لا ينفرج حاجبي أبي- المتقاطعين كأنهما "واد ضيق"- قط في وجود أحفاده وأبنائه. فقد عمل أبي بجد طوال حياته، حتى أنني لا أتذكر مطلقا أنه كان شابا في يوما ما. فهو دائما يردد عبارته " آآآآه، لقد هرمت!" ظل يردد هذه العبارة عشرين أو ثلاثين عاما، بكل تأكيد، حياة الشقاء جعلت أبي يهرم قبل الأوان.  مزاجه المنهك هرم أيضا. سرق العمر شبابه، مثلما يسرقه منّي الأن. كلما يردد أبي عبارته " آآآآه، لقد هرمت!" أعلم أن خريف العمر قد حل. في ذلك الحين، أشعر أنه يجب على أبي أن يستريح مثلما يستريح نصل المنجل المنهك بعد عمل شاق، يجب أن يتوقف عن العمل، ويريح جسده وقلبه، يعقد يديه خلف ظهره، يسير متأرجحا، يتجول أينما شاء، يزور الأقارب، يصطحب أحفاده وحفيداته إلى الحقل......ويستمتع بدفء أخر شعاع للشمس مثلما تنعم أوراق شجر الخريف الذهبية بالسكون. ولكن، أبي مزارع، مزارع حتى النخاع، لن يتخلى عن العمل بيديه أبدا، مثلما لا أستطيع أنا التخلي عن رسم ما يجيش في صدري من مشاعر وحب وكراهية بالكلمات.
أبي يعشق الأرض، أينما وجد الزرع، فأنه لا يكل أبدا من الحرث، هذا هو عالمه وهذه هي حياته. لكن، أبناءه الذين تربوا على ما زرعه أبي بعرق السنين يهجرون الأرض واحدا تلو الأخر، يلقون المحراث من على أكتافهم، ويسقطون المناجل من أيديهم، فيصاب أبي بالحزن والإحباط.  فمن يلقي بأدواته ويمضي، فهو كمن تخلي عن أصله وأصبح لا يستحق أن يكون فلاحا.   
يرفض أبي أن يلقي بأدواته ويهجر الأرض التي راعاها لعشرات السنين، أما الأبناء، فأنهم يعتقدون أن أبيهم لا يعرف كيف يتمتع بحياته. ولكن أبيهم لا يري أي متعه في التخلي عن أرضه والجلوس طوال اليوم داخل تلك الأقفاص الخرسانية، هذا دون شك مثلما تلقي بمنجلك في موسم نضوج القمح، أو كأنك تقطع الشجر الذي يهب لنا الحياة. الأرض هي قطعة من روح أبي.
حينما ينتهي أبي من شحذ نُصل المناجل، يلتقط النصل الذي تستخدمه أمي، قائلا لها أن تذهب إلى الحقل لجمع حزمة من الشعير، كي تصنع بها حساء نأكله. تذهب أمي منهكة متعثرة، وتعود بطعم الخريف. ما أن يراها أبي حتى تظهر علي وجهه ابتسامة تشبه في بهاءها شمسا خريفية.  
قبل بضعة أيام عدت إلى بيتنا في الريف. كنت أجلس في الحافلة التي تسير بمحاذاة مروج القمح المتوهجة باللون الذهبي. أخشى أن يكون أبي قد أنتهي من شحذ مناجله. ما أن دفعت الباب ودخلت إلى الساحة، حتى رأيت أبي مريحا جسده تحت شجرة المشمش يعلو شخيره ويغط في نوم عميق، وحبات المشمش التي حان وقت قطافها تتساقط على الأرض من حين إلى أخر. ورأيت نُصل المناجل معلقة على مشبك المناجل هناك تحت سقف الغرفة، يعلوها الصدأ كأن لم يمسسها أحد من قبل. هل نسي أبي أمر المناجل، أم انه لم يري صُفرة الخريف، أو قد لم يسمع صوت الخريف بعد؟ جلست بجانب أبي الذي كان يغط في نوم خريفي عميق، أحصي ببطء ما حفرته السنين على جبينه من علامات، أحاول أن أخمن ما يشعر به الآن.    
لا أدري كيف لأبي المزارع الذي قضى عمره في العمل الشاق أن يصبح مترفا هكذا، حتى أنه ينام نوما عميقا بعد ظهر يوم من أيام منتصف الخريف. في ذلك الوقت، مرت بعض خيوط أشعة الشمس من بين غصون أشجار المشمش، تحرث على وجه أبي السكينة، وتبعث نسمات السلام.

🎉 لقد انتهيت من قراءة قصص قصيرة مترجمة من الصينية 🎉
 قصص قصيرة مترجمة من الصينيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن