إبحار على سطح المرساة
تأليف
حسين عبد الحسن محسنجالس أَمَام المارة ، وكالعادة لا أحد يصلح أن يكون بَطَلًا لِقِصَّتي ، لي بقيتي على المَقْعَد الخشبي في الصَّفّ الأمامي من الإرهاق ، أُدوِّن مشاعر القِطَط المشرَّدة قبل أن يستيقظ لَيْل يعتمد على حاسة السمع فحسب ، أُصارع كُلّ شيء حتى العواطف الرقيقة في حلبة مصارعة الثيران ، الأصفر لم يعد مُلْكي ، ولا أظن أوراق الخريف هي ما تذرفه الأشجار من دموع حزنًا عليها ، ولا شيء يسترخي فيك إذا بكيتَ سوى دموعك ، تزقزق العصافير وينبض العُشّ القرمزيّ فارغ على صهوة زُنُود عارية بيضاء بِلَوْن الرِّيح ، ولأن أسناني تؤلمني اِبتلعتُ الحلوى دون أن أمضغها وأستلذّ بطعمها ، ولأن والديَّ خائفَين عَلَيَّ من الاكتئاب دائمًا ما يذكِّراني بأني كنتُ طِفْلًا ذات يوم ، آه خرمشة بنفسجية على صدري كما ينسحب العِنَاق المحاصر بِهَوَس العدوى ، الكثير من الغوغاء تكدِّر صفو الحياة ، أَنْصِتْ جَيِّدًا في تناسل هذا الفراغ إلى فيلسوف متمرِّد وهو يرتِّل آيته الشهيرة قائلًا : لو كان الله عادلًا لما خَلَقَ البَشَر ، الحُبّ حادثة سير يضطرّ الأقلّ تضرُّرًا إلى نقلك للمشفى ، الإرادة الحُرَّة تتجلى في سُبَات الحلزون ، أنا صاحب الكهف الوحيد ما دامت خيبات الأمل أكثر فعالية من الحبوب المنوِّمة ، لا شَكَّ أني الوحيد الذي يجيد السباحة تحت المطر ، لا شَكَّ أني الوحيد الذي يحدِّق في حبيبات المطر وهي تتساقط على عينيه دون أن يَرْمُش ، أنا نَبِيّ ومعجزتي أنني أستطيع إنهاء حياتي متى أشاء ، ولأن البَحْر أبعد من الموت بكثير رميتُ المرساة في قاع السفينة وغرقتُ بشهية صُوفِيّ للمكاشفة ، نعم قررتُ أن أموت لكي أحيا فلا حياة بلا موت ، كُلَّمَا رأيتُ نَوْرسًا تذكرتُ خيبة أكثر زُرْقَة من البَحْر والسماء ، هناك طِفْل إذا هززت مهده ينام ، وهناك طِفْل إذا هززت مهده يستيقظ ، كم أنا وحيد ، بالوحدة فقط يُمَيَّز الخبيث من الطيب ، أنا فَرْخ البَطّ القبيح الذي كَبِرَ وتأكَّد أنه أقبح مِمَّا كان عليه ، أكثر ما يَسْخَر منا هي أُمنياتنا ذاتها ، كُلَّمَا تمنيتُ أشفقتُ لحالي ، إنها وبلا ريب الإيثار الناتج عن الأنانية ، في الفراغ وفي الطاقة الأقل من الصِّفْر أستعيد خمولي لكي أقوى على النهوض ، أَنْتِفُ رِيْش الدجاجة ثُمَّ آمرها أن تحضن البَيْض ، وما إن تفقس الشمس حتى تصبح صِغَار المَغِيب قادرة على الطيران ، إلى ذلك الذي اِتَّخَذَ من البرميل وطنًا ، ومن اللااِنتماء مذهبًا ، ومن حياة الكلاب حضارة لا تنافسها حضاراتنا ، إلى ذلك الذي حمل مصباحًا في وَضَحِ النهار ليثبت لنا كم نحن عُمْيان ، أنت الوحيد الذي يستحق الحياة ، يحوم الذباب في أثناء المناقشات حول عُصَارَة الفضيلة ويمتدّ خرطوم الفيل إلى طنين نجمة خزفية فيتصدع الأخضر كي يملأ دَوْرَق المَخْبَر ليشخص ولادة الماء المُعْسِرَة ، يتطاير الدخان بحالته السائلة من جرس الكنيسة والمئذنة ولا يحطّ إِلَّا على أجنحة الفقاقيع اللزجة ، أرى حراشف فضية تتدحرج على سِكَك خطوط الكَفّ في اِنتظار ذاكرة أصحابها ، شَمَّرَت الأقدام عن دروبها ، مفاجأة الحواس بِمَقْصَد مانعة الصواعق ، طائرة ورقية ملتصقة بِظَهْر الهواء ، إلى أين أيها اللون الأسود يا سيد الألوان ، أخبر الله إن صادفته بأني لم أعد أصلي إِلَّا بِنِيَّة أين الله ؟ أنا عامل توصيل الهدايا لا هدية لي ، هناك من طلب مني أن أُوصِل هدية إلى من أحببتها حتى الجنون ، ولأنها شعرَت بِحُبِّي لها رَقَّ قلبها لي وأعطتني بَقْشيشًا وأغلقَت الباب ولم تكتفي ، بل فتحته مَرَّة ثانية ، في الحقيقة نسيتُ هل هي المَرَّة الأُولى أم الثانية ، لأنها تذكَّرَت أنها لم تودعني ، إلى أين أيتها السخرية العاطفية ؟ إلى أين يا أنا المهرِّج ؟ أنا اليتيم أيتها الدنيا ، إِذَنْ لماذا دائمًا عَلَيَّ أن أمسح على رأسكِ بِشِعْري ، لن أُقسم بِأَيّ شيء ، يكفيني صِدْقًا أنني لم أعد صَادِقًا ، عَطَفَ عَلَيَّ صَيْدِي ودَلَّ كَلْبِي عَلَيَّ ، سألته بدهشة عارمة ، أأنتَ صَيْدِي ؟ هَزَّ رأسه إلى الأعلى والأسفل ثُمَّ نصحني بأن أُمسك البندقية هكذا وأن أُصوِّب هكذا فشكرته من كُلّ قلبي ، تفاحة حمراء وفرشاة أمواج كبيرة وأسنان شاطئية متباعِدة ومثقوبة كَمَمَرّ لِدُودَة حسبها تصبيرة ، أنت أيها الطائر أرجوك لا تبني عُشّك هنا ، رغم أن ثِمَار هذه الأشجار متدلية تكاد أن تلامس الأرض إِلَّا أنهم لا يستمتعون بجني ثِمَارها إِلَّا حين يرموها بالحجارة ، أخاف أن يسقط عُشّك مع الأثمار ، أخشى أن يسقط عُشّك ولا ينكسر البَيْض فَيُقْذَف كالحجارة ، من أين أنت ؟ قُلْ لِمَنْ ؟ عُدْ إلى الوراء وَوَدِّع قليلًا ، لا بِعَدَد خُطَاك لئلَّا تدفع الثَّمَن ، عُدْ من حيث أتيت ، ولكني لم أأتي بَعْد ، مغالطة بين الزمان والمكان ، هنا ذاكرتي وهناك يُدْفَن التُّرَاب حَيًّا في خياشيمه ، من البَحْر إلى البَحْر يعاد ترتيبي مع الأمواج ، وحين يكون السَّبَّاح مثلك غارق في التأمُّل شَارِد الذِّهْن يغوص ولا تذكِّره حتى رؤية الأسماك وهي تسبح في عينيه ، هذا ما سَنُسَمِّيه أنا وأنت من أجل الحُرِّيَّة فَنّ أن تَغْرَق شَارِد الذِّهْن .
9 نوفمبر 2022