فجر غدٍ جديد

263 12 35
                                    

اجتمع ما يفوق الخمسين طالباً منتشرين حول أرجاء المدرج الكبير، قسم منهم اختار النوم على المتابعة؛ والقسم الآخر ، حري بالذكر أنه كان القسم الأكبر ، كان منهمكاً بالتركيز مع كل كلمة يلقيها عليهم البروفيسور الشاب الذي استولى على القاعة بحضوره ... شبيه بشيطان فطن إلى حد ما.

كانت جدران القاعة أقرب لأن تكون حاجزاً بين عالمين متناقضين: خارجها العالم المكتظ كثير الضوضاء والفوضى؛ حبيبان يغازلان بعضهما وسط شلة اصدقائهم الملولة، شابٌ يضرب رأس صديقه ليريه أن كتلته العضلية زادت مذ آخر مرة زار النادي بها، ناس تجول الردهة ذهاباً وإياباً تطقطق بأحذيتها.

لكن إن عبرت هذه الجدران إلى الداخل لشعرت أنك أصبت بالصمم في بادئ الأمر، صوت البروفيسور الذي يملأ المدرج هادئ ومتزن، يقابله صمتٌ مهيبٌ من طرف طلّابه كأنهم تحت تأثير لعنة، ومن ثمّ يكفي أن ينظر إليك هذا المدرس بعيناه القرمزيتان لتشعر بسيطرته عليك.

بعد الانتهاء من محاضرته، غادر القاعة بنفس الهدوء الذي دخله بها؛ مشى بطريقه المعتاد: عبر الممر العريض وصولاً إلى مدخل الكلية الحديدي الصدئ، عابراً الطريق الفرعي الكئيب، لا يدري أكان للأوراق الباهتة المبعثرة على دربه أن تزيد ملامحه حزناً أم حسناً، التف عند شجرة بلوط كهلة انحنت من قسوة العمر عليها، ليقف أخيراً أمام حانة قديمة.

دخوله لم يكن دخولاً مسالماً لا يكاد ينتبه له أحد، رغم هدوئه، الهالة التي تحيط به جعلت كل الجلوس يرتعدون بدون معرفتهم للسبب، عبر بين الناظرين والسكارى إلى مكانه المعتاد في الزاوية المظلمة قرب منضدة المحاسب لكن أمرٌ ما كان مختلفاً في هذا المكان، كأن عيناً ما تراقبه.

-سيد أوليفر، إليك هذه القهوة من السيد النبيل على الطاولة المقابلة، لقد دفع ثمنه لأجلك، هل تعرفه؟ قال أنك لا تفضل شرب الكحول في النهار وطلب بتقديم القهوة المرة لك.

قرأ المدرس اسم النادل عن البطاقة المصفرّة على قميصه الأحمر الرخيص، وتناول الفنجان بامتنان ظاهري مبدياً ابتسامة وديعة:
-يا له من لطفٍ أن يتكرم أحد النبلاء بفنجان قهوة على بروفيسور متواضع مثلي، ألا تظن ذلك يا الكسندر؟

نطق اسم النادل وهو يضيق عيناه على ظل الشخص الغامض في الطاولة المقالبة، بدا صوته جدياً وحاداً عكس رقة ملامحه ما جعل النادل يرتعش وينسحب بصمت.

كان ذلك السيد النبيل كالظل لا يظهر منه سوى شعرٌ أسود طويل، وجزء من معطفه الرمادي الثقيل، لكن تمكن اوليفر من الاحساس بنظرات من طرفه تخترق روحه.

نهض من مكانه وتوجه إلى الطاولة بوقار يمد يده بمنديلٍ غالٍ هدية للغريب، تعلو وجهه ابتسامة ملتوية:
-اعتبره عربون شكرٍ مقابل القهوة، أيها السيد.

ثم ابتعد ليمركز قبعته على شعره الأشقر ويلقي معطفه الذي كان قد خلعه سابقاً بإهمال على كتفه:
-أعتقد أننا سنلتقي مجدداً، حينما نفعل سأكون أنا من يشتري لك القهوة.

أنهى جملته بالعودة لطاولته حيث جمع أوراقه وغادر.

عندما نظر الرجل إلى المنديل وجد عليها جملة أشعلت في نفسه نيراناً ظن أنها خمدت منذ زمن:
-أمسك بي ان استطعت... مستر هولمز.

ضحك المحقق المتخفي بصوت عالٍ غير آبه بالحشود، الأدرينالين يضخ في عروقه كما لم يحدث له من قبل، كما هو متوقع من صديقه القديم ويليام ، عذراً أوليفر ، لقد تم إعلان الجزء الثاني من لعبة الالتقاط.

كان المحقق منتشياً في هذا اليوم، صديقه بخير وهذا المنديل هو خير مثالٍ على هذا، لكنه ما زال مدركٌ لأن العذاب ما يزال يطارد هذا البروفيسور اليافع كل ليلة يقض مضجعه.

هو لم يره منذ وقوع الحادث.. استيقظ في كوخ خشبي صغير تحت أنظار العائلة التي كانت تهتم به طيلة فترة غيابه عن الوعي، ورغم محاولات البحث المطولة التي بذلها في سبيل الإمساك بطرف خيط عن حال صديقه أو حتى مكانه، لم يصل إليه.

ما هي الحياة التي يعيشها إنسان كان يتغذى على الموت؟

بعد شهر من استيقاظه في ذلك الكوخ، قرر أخيراً أن يغادر تلك العائلة الكريمة شاكراً إياهم على لطفهم معه، واتخذ من منزل قديمٍ في قرية صغيرة ملجأ له في الليل حيث أنه كان يقضي النهار متقفياً أثر صديقه.

كان هذا حتى قادته سمعة ويليام إليه بنفسها، في اليوم الذي سبق لقائهما المثير في الحانة كان شيرلوك، المعروف الآن بوينستون، قد قرر زيارة المدينة القريبة لعله يجد دليلاً ما.

-هل هذا شعوري أنا فحسب؟ أم أن بروفيسور أوليفر مرعب بحق؟ إنه فقط هادئ أكثر من اللازم ما يخيفني هو أني أجهل ما يدور في مخه.

كان هذا حديثٌ يدور بين ثلاثة طلاب جامعيين عن أحد مدرسيهم، وبدا الطلاب الثلاثة متفقين على أن هذا المذكور يملك هالة لها أن تخيف رئيس الجامعة بذاتها إذ قفز طالبٌ ثانٍ وهتف:
- أنت محق! ولا تجعلني أبدأ بالحديث عن عيناه! أشعر كأني أنظر لبركة من الدم كلما نظرت لهما... ويحكم! هل يعقل أنه مصاص دماء؟

الاستنتاج الأخير لهذا الطالب كان كفيلاً بجعل بقية رفقاه يضحكون وينسون الموضوع برمته.
علت ضحكة شيرلوك الذي كان يستمع لحديثهم طيلة الوقت، لكن لم تكن خفة دم الطالب التي أثارت الضحك في نفسه، بل هي أن هذه المحادثة القصيرة كانت المفتاح لعثوره على منافسه العبقري ويليام، وأصبحت مجرد مسألة وقت قبل أن يلتقي به من جديد.
.
.
.
- لقد أمسكت بك بالفعل ليام... ولا أمانع بالركض خلف ألغازك للمرة الثالثة، علي بها!
نهض إلى أقرب فتاة له وانحنى لها بأدب مقدماً المنديل لها، ثم استدار وانطلق بعد أن تأكد أنه قد أوقع تلك الفتاة له بغمزة أخيرة.

من الآن ستصبح الأمور ممتعة أكثر فأكثر.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 26, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

موريارتي المخلص لوطنهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن